العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

عُدت من تركيا، بعد ثلاث سنوات، لمست خلالهم حب، وتقدير، الشعب التركي، للشعب المصري، في جميع تفاصيل الحياة، حتى إن أكبر الأسواق، في مدينة إسطنبول، هو “سوق مصر”، منطوقاً لديهم باللغة العربية، مصر.

هل تكره تركيا مصر؟
 

لواء د. سمير فرج

 14 أغسطس 2019


في اليوم الثلاثين من أكتوبر، من عام ١٩٥٦، وأنا طفل صغير، في مدينتي الجميلة، بورسعيد، رأيت بعيني الطائرات الإنجليزية تقصف المواقع العسكرية، وجنودهم تهبط بالمظلات في مطار الجميل، ورأيت والدي يسارع نحو الراديو، فسمعنا الإنذار الإنجليزي، لأهالي بورسعيد، عبر محطة BBC، بالنزول إلى المخابئ، والابتعاد عن مناطق محددة، حيث بدأ هجوم إنجلترا وفرنسا على مدينة بورسعيد.

هرولنا جميعاً إلى البدروم، ومكثنا به حتى يوم الثاني من نوفمبر، حينما أعلنت إذاعة BBC، انتهاء القتال. فصحبني والدي، على الفور، للاطمئنان على جدتي، القاطنة بشارع الثلاثيني، وفي طريقنا إليها مررنا بعشرات الشهداء، من أبناء بورسعيد الباسلة، على جنبات الشوارع، سقط كل منهم في دماءه، وبجواره سلاحه البسيط، وخوذته، حتى وصلنا إلى ميدان المحافظة، فإذا بالمنازل جميعها محترقة، جراء قصفها بقنابل النابالم، التي ألقتها الطائرات الإنجليزية. واحتلت القوات الإنجليزية مدينتي الجميلة بورسعيد … وبعدما شاهدت، وعشت، هذه اللحظات القاسية، تَملكني، مثل أي مواطن مصري، البُغض الشديد للإنجليز، وصممت، حينها، أن أكون ضابطاً مقاتلاً لأدافع عن بلادي.

مرت السنوات، وأعانني الله على الوصول لهدفي، والتحقت بالكلية الحربية، وصرت ضابطاً بالجيش المصري العظيم، تدرجت فيه في الرتب والمناصب، حتى بُعثت إلى كلية كمبرلي الملكية بإنجلترا، في عام 1975، فذهبت ومشاعر الكره والبغضاء، للشعب الإنجليزي، لم تفارقني يوماً، بعدما فعلوه بمدينتي بورسعيد، ولكن بعد فترة وجيزة من التعايش مع الشعب الإنجليزي، وجدته شعب محافظاً على تقاليده، وحضارته، وأنهم يحبون ويقدسون تاريخ مصر، وحضارتها العظيمة، فكان ذلك أول درس لي، بضرورة التمييز بين الشعوب والحُكام.

فعند دراسة التاريخ السياسي والعسكري للعدوان الثلاثي على مصر، أو “حملة السويس” كما يُطلق عليها في إنجلترا، تدرك جيداً أن الداعي الأول لها، هو “أنطوني إيدن”، رئيس الوزراء البريطاني، آنذاك، في محاولة منه لاستعادة أمجاد الإمبراطورية البريطانية، التي لم تكن تغيب عنها الشمس. فهو الشخص الذي وجه كل هذا البُغض لمصر، بسبب كرهه للرئيس عبد الناصر، أو كما كان يُلقبه “الكولونيل ناصر”، بعدما أخرج عبد الناصر الإنجليز من مصر، وحقق لها الجلاء، ولأن عبد الناصر هو من بنى السد العالي، ولأن عبد الناصر هو الذي أمم قناة السويس، ولأنه من بنى جيش مصر، بعد ثورة يوليو، وأقام ثورة صناعية بالبلاد، وهو من قاد التحرير في العالم العربي، وأسس مجموعة دول عدم الانحياز، وغيرهم الكثير والكثير من الإنجازات … وبعد أن قضيت عامين في إنجلترا، أعيش مع هذا الشعب الذي يعشق تاريخ مصر، رغم تآمر قادتهم عليها، وطمعهم فيها، أصبح مبدأ التمييز بين الشعوب، والحُكام، درساً جلياً.

وتمر الأيام والسنوات، ويتم تعييني ملحقاً عسكرياً، في تركيا، أثناء فترة حكم الرئيس التركي تورجوت أوزال، الذي كان عاشقاً لمصر؛ حضارة وحكومةً وشعباً، حتى أنه يوم تقديم السفير المصري الجديد، آنذاك، محمد الديواني، أوراق اعتماده، ضمن عشر سفراء لدول أخرى، وكنت طبقاً للتقاليد التركية مرافقاً له، كان اللقاء الثنائي، الوحيد، للرئيس أوزال، مع السفير المصري، بعد انتهاء مراسم اعتماده، وتحدث فيها هذا الرجل، رحمه الله، بأسمى الكلمات عن مصر وشعبها، واحترامه وتقديره للتاريخ المصري، ومتانة العلاقات الثنائية بين البلدين، آنذاك. وحين توفى الرئيس أوزال، حضر الدكتور ماهر أباظة، وزير الكهرباء الأسبق، رحمه الله، ممثلاً رسمياً لمصر، للمشاركة في مراسم جنازة الرئيس أوزال. وبعد الانتهاء من المراسم، كان العشرات، من الأتراك، من إقليم هاباظيا، مسقط رأس الأسرة الأباظية بتركيا، قد ملأوا أرجاء السفارة المصرية، في أنقرة، للترحيب بابن عمومتهم الوزير ماهر أباظة، بعدما علموا بوجوده.

عُدت من تركيا، بعد ثلاث سنوات، لمست خلالهم حب، وتقدير، الشعب التركي، للشعب المصري، في جميع تفاصيل الحياة، حتى إن أكبر الأسواق، في مدينة إسطنبول، هو “سوق مصر”، منطوقاً لديهم باللغة العربية، مصر، ولم ينس الأتراك أن من شيد أكبر مساجد إسطنبول، وأهم معالمها، مسجد السلطان سليم الأول، هم العمال المصريون، في صورة مطابقة لمسجد محمد علي، بقلعة صلاح الدين، ولم ينسوا أن المصريين هم من أقاموا لهم السوق المغطى، ليحاكي سوق خان الخليلي، بقاهرة المعز. يعلم الشعب التركي ذلك تماماً، ولا ينكر أياد مصر البيضاء على تركيا، على عكس ما تراه من الرئيس التركي، أردوجان، ذلك الرجل الذي يعيش على أطلال الماضي العتيق، في زمن الإمبراطورية العثمانية، أملاً في استعادة زمن السلاطين العثمانيين، ناسياً، أو بالأحرى، متناسياً، أن التاريخ قد سطر فصولاً جديدة، كانت ولازالت، مصر فيها هي القوة الكبرى في المنطقة، وحجر الزاوية فيها، ومنارة العالم الإسلامي، باحتضانها للأزهر الشريف، مرجع ومقصد مسلمي العالم كله.

ونذكر أن دولة الإمارات العربية المتحدة، عندما احتفلت، منذ فترة، بأقطاب الديانات في العالم، دعت بابا الفاتيكان ممثلاً للأخوة أقباط العالم، ودعت فضيلة الإمام الأكبر، شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، ممثلاً لأكثر من ٢ مليار، هم مسلمي العالم، من هنا، ومن كل ما وثقه التاريخ، عن دور مصر الإقليمي، وقوتها بالمنطقة، تولد كره أردوجان لمصر، لتمام إدراكه بأنها الحائل الوحيد أمام تحقيق رغبته المحمومة، بعودة سيطرة الإمبراطورية العثمانية، فلم يجد لنفسه حيلة، سوى أن يصب غضبه على مصر، وسياساتها، تارةً بإرسال عناصر داعش إلى سيناء، بعد هروبهم من سوريا والعراق، وتارةً بدعم المرتزقة في مدينة طرابلس الليبية، ضد الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، كما يحدث اليوم، بهدف استمرار حلقة التوتر في ليبيا على الحدود المصرية، وتارةً أخرى، من خلال التحرش في منطقة البترول والغاز شرق المتوسط، في اتجاه قبرص، للتأثير على استثمارات مصر في هذه المنطقة.

ولكن مهما فعل أردوجان، سيظل الشعب التركي يُكن كل الحب والتقدير لمصر، أما حكم أردوجان فإنه يتعرض الآن للعديد من المشاكل الداخلية، سياسياً واقتصادياً، بعدما مُني حزبه بهزيمة ساحقة، في انتخابات البلدية في أكبر مدن تركيا، وفقده لمدينة إسطنبول، وما تلاها من انشقاقات في حزبه، إضافة إلى تدهور الأحوال الاقتصادية، والهبوط الحاد في الليرة التركية. يضاف لذلك تدهور العلاقات الخارجية مع الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، بسبب إتمامه لصفقة الصواريخ الروسية (SS400) … تؤكد الشواهد على أن قرب ابتعاد أردوجان عن كرسي الرئاسة، إلا أن حب الشعب التركي لمصر سيظل باقياً.



Email: sfarag.media@outlook.com