العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

لكن هذا الوضع مخالفاً لجميع قوانين الاستراتيجية والأمن القومي، التي ترى أن أي قوة اقتصادية، سواء كانت طبيعية أو صناعية، يجب أن يكون لها قوة عسكرية تحميها وتؤمنها.

اليابان عسكرياً … إلى أين؟
 

لواء د. سمير فرج

 14 ديسمبر 2018


فجأة انقلبت الأوضاع، في منطقة جنوب شرق آسيا، حيث أظهرت جميع البيانات والأرقام، ظهور العملاق الجديد، التنين الأصفر، الصين كقوة عالمية جديدة … ومن هذا المنطلق بدأت الولايات المتحدة الأمريكية، من جانبها، فرض القيود على وارداتها من الصين، بل وفرضت رسوم إغراق، على المنتجات الصينية الواردة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

ومع بداية تولي دونالد ترامب لمهام منصبه، في البيت الأبيض، خاطب المواطن الأمريكي، قائلاً، أن أمريكا سوف تتوقف، لمدة عام أو عامين، عن استيراد ألعاب الأطفال من الصين، لإتاحة الفرصة أمام مصانعها المحلية لتصنيع منتجاتها الجديدة من ألعاب الأطفال. ومن بعدها بدأت الحرب الاقتصادية الأمريكية، على الصين، في محاولة للسيطرة على التنين الأصفر، حتى لا يتحول إلى عملاق جديد، يزاحم القيادة الأمريكية في العالم كله، ليس في جنوب شرق آسيا فقط. ومن ناحية أخرى، قامت الولايات المتحدة الأمريكية، بتقوية ودعم أعداء الصين في المنطقة، وأولهم، وأهمهم، تايوان، التي بدأت صناعتها في الازدهار، خلال الأعوام الخمس الماضية، وخاصه المشروعات المشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

ولا شك أن كل هذه التطورات، في الأحداث، بدأت تقلق اليابان، التي خرجت من الحرب العالمية الثانية، بعد ضرب هيروشيما وناجازاكي بالقنبلة الذرية، متأثرة بشدة، بعدما أحدثت هذه الضربة آثار بالغة على الشعب الياباني، بل وعلى الأجيال القادمة، مما دفع اليابان إلى اتخاذ قراراً مصيرياً، بعد تصديق البرلمان، بعدم دخول اليابان أية حروب أخرى في المستقبل، بل ووافق البرلمان الياباني على إنشاء الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر قاعدة عسكرية لها في العالم، في ايكاناوا، بل زاد البرلمان الياباني على ذلك، بموافقته على التوقيع على معاهدة تحالف عسكري كامل، مع الولايات المتحدة الأمريكية، تكون الولايات المتحدة الأمريكية، بمقتضاها، مسئولة عن حماية وتأمين الأراضي اليابانية، وبناءً على تلك الاتفاقية، قررت اليابان تحديد حجم قواتها العسكرية، وإيقاف الصناعات الحربية اليابانية، بعد أن كانت اليابان من الدول القليلة في العالم، التي تبني حاملات الطائرات العملاقة. وأصبح الجيش الياباني قاصراً على قوات لتأمين الحدود والسواحل، وتفرغ الشعب الياباني لتطوير الصناعات والإلكترونيات، فأصبحت اليابان قوة صناعية تكنولوجية، لا يستهان بها، في العالم كله.

لكن هذا الوضع مخالفاً لجميع قوانين الاستراتيجية والأمن القومي، التي ترى أن أي قوة اقتصادية، سواء كانت طبيعية أو صناعية، يجب أن يكون لها قوة عسكرية تحميها وتؤمنها. فتحت أهوال نتائج الضربات الذرية التي أصابتها، تناست اليابان، للأسف، هذه النظرية، حتى اندلعت الشرارة الأولى، عندما استولت الصين على بعض الجزر اليابانية، في بحر الصين، وما تلا ذلك من أعمال التحرش، بسفن الصيد اليابانية، في بحر الصين، بإعلان الصين أحقيتها التاريخية في هذا البحر. وانتظرت اليابان أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بواجبها في حماية الأراضي اليابانية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستعادة الجزر، ورفض التحرشات الصينية بسفن الصيد، ولكن، بالطبع، لم تقم الولايات المتحدة بأية إجراءات من شأنها الحفاظ على مقدرات اليابان، إذ أنه من غير المعقول أن تدخل الولايات المتحدة الأمريكية، في حرب مع الصين من أجل اليابان.

وهنا انتبهت اليابان، إلى ضرورة تغيير استراتيجيتها، بعدم الاعتماد على الغير، والتوجه نحو بناء جيش قوي، يحقق تأمين البلاد، براً وبحراً وجواً، والحفاظ على استثماراتها في بحر الصين. وكانت اليابان تظن، في البداية، أن هذه التحولات قد تقلق الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الأخيرة باركت هذا التحرك.

وبدأ تحرك اليابان في اتجاهين؛ الأول عسكرياً، إذ بدأت في وضع خطة عشرية لتطويع التكنولوجيا اليابانية، لاستخدامها في الصناعات الحربية. كذلك انشأت مجموعات Think Tank، ومراكز دراسات استراتيجية، لتحديد الاستراتيجيات والسياسات اليابانية، المستقبلية، نحو دول منطقة جنوب شرق آسيا، وعلى رأسها الصين، ثم باقي دول العالم، ومناطق مصادر الطاقة في دول الخليج العربي. وبدأت اليابان في إنشاء جيش وطني جديد، فأسست المعاهد العسكرية الوطنية، بدلاً من الاعتماد على إرسال ضباطها للولايات المتحدة الأمريكية للدراسة، والتدريب. وبدأ إشراك الضباط والقادة اليابانيين، في المناورات العسكرية بحلف الأطلنطي، كمراقبين، بهدف الاستفادة من الخبرات القتالية، خاصة أن الأجيال السابقة، في الجيش الياباني، قد رحلت دون أن تسلم، الأجيال الجديدة، لخبراتها العسكرية السابقة. وهكذا، فإنه من المنتظر، خلال الأعوام القادمة، حتى 2025، أن نرى، لليابان، جيشاً قوياً، قادراً على تأمين بلاده، ومصالحه الاقتصادية.

وعلى المحور السياسي، بدأت اليابان في التعاون مع دول المنطقة، وعلى رأسها الصين، على أساس ثلاثة محاور؛ الأول، التحول من التنافسية إلى الشراكة. والثاني، تطوير التجارة الحرة مع هذه الدول. والثالث، هو التحول من التهديدات إلى التعاون. كما أطلقت اليابان، في المجال السياسي، مبادرة الأندو آسيوية، التي تهدف إلى تقديم الخدمات والتعاون بين اليابان ودول العالم، بعدما كانت مقتصرة على ما تقدمه مؤسسة الجايكا، التي أقامت دار الأوبرا في القاهرة. وتوسعت اليابان، أكثر وأكثر، في المجال السياسي العسكري، بأن بدأت في إقامة قاعدة عسكرية لها في جيبوتي، على مدخل البحر الأحمر من المحيط الهندي، وهو تطور كبير في العلاقات الخارجية اليابانية.

وهكذا نرى أن التطور السريع، في الاستراتيجية اليابانية، سوف يحقق لها شكلاً جديداً في المستقبل القريب. ولقد كانت زيارة رئيس الوزراء الياباني إلى الصين، هذا الشهر، بعد انقطاع سبع سنوات، بداية التحول في السياسة اليابانية في المنطقة، بهدف تأسيس مناخ جديد، قائم على الصداقة بديلاً للعداوة، وهو ما لن يتم بالزيارات والمجاملات الدبلوماسية المتبادلة، فحسب، وإنما سيلزمه قوة عسكرية، قادرة على حماية الأمن القومي لليابان.

ومع هذه التطورات الجديدة، فإننا نرى أن النظرة الأمريكية لهذا التطور في الاستراتيجية اليابانية، مرهون نجاحه، بألا يؤثر على الأمن القومي الأمريكي، في منطقة جنوب شرق آسيا.



Email: sfarag.media@outlook.com