العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

في أعقاب هذه الأزمة، انتبهت المعاهد الاستراتيجية، وجهات الأمن القومي في كافة بلدان العالم، لأهمية الاستفادة من تلك الأزمة، وتطوير مفهوم إدارة الأزمات، ليصبح علماً أساسياً من علوم الدفاع والأمن القومي

 كيف بدأ علم ... إدارة الأزمات

لواء أ.ح. دكتور/ سمير فرج

 

أصبحت الأزمات ... واحدة من مفردات العصر الحديث ... بل يذهب البعض لاعتبارها مرض العصر. فالكل يتعرض للأزمات؛ الشركات، والهيئات، والمؤسسات، بل وحتى الدول صغرى كانت أو كبرى.

ولقد تعرضت مصر، مؤخراً، إلى أزمتين، إحداهما هي خطف الطائرة المصرية والهبوط بها في قبرص، وقد أدارات مصر هذه الأزمة بجدارة، وحققت نتائج إيجابية على مختلف الأصعدة. أما الأزمة الأخرى فهي مقتل الشاب الإيطالي في القاهرة، والتي لم تدار بطريقة علمية سليمة، لذا جاءت نتائجها السلبية مؤثرة على مصر، وأعتقد أن ذلك الأثرالسلبي سيمتد لفترة طويلة.

وتتعدد أنواع الأزمات لتشمل الأزمة السياسية، والأزمة الاقتصادية، والأزمة الدستورية، والأزمة الأمنية، والأزمة الإرهابية، وغيرها من أزمات الكوارث الطبيعية، أو الصناعية. كما تصنف الأزمات، كذلك، إلى أزمات داخلية وأزمات خارجية، باختلاف طابعها سواء عدائي أو غير عدائي، تنقسم من حيث الحجم إلى أزمات بسيطة، أو أزمات كبيرة، ذات أبعاد مختلفة.

ولعل أشهر أزمات التاريخ المعاصر، والتي لفتت الأنظار، بعدها، إلى ضرورة أن تصبح إدارة الأزمات علم يدرس في كافة المعاهد الاستراتيجية حول العالم، هي تلك الأزمة التي شهدها العالم على مدار ثلاثة عشر يوماً، في الفترة ما بين 16-28 أكتوبر من عام 1962، عندما فوجئت الولايات المتحدة، خلال حملة الانتخابات الأمريكية، بأن السوفيت قد نصبوا صواريخهم في كوبا، على بعد 90 ميل من سواحل ولاية فلوريدا. فأطلقت الولايات المتحدة طائراتها الـU-2 للتجسس، وعادت لتؤكد وجود تلك الصواريخ السوفيتية، بالفعل، وهو ما يعد، قطعاً، تهديداً للأمن القومي الأمريكي.

ومن هنا كانت الأزمة، التي بدأت يوم 16 أكتوبر 1962، وانتهت، رسمياً، يوم 20نوفمبر من نفس العام، وأطلق عليها اسم "أزمة الكاريبي"، أو "أزمة الصواريخ الكوبية"، تلك الأزمة التي أوشكت على إشعال حرباً عالمية ثالثة، بل وحرباً نووية، كانت ستفتك بكل الأطراف.

ولقد جاءت هذه الأزمة بعد محاول الولايات المتحدة الأمريكية إسقاط النظام الكوبي، بقيادة فيدل كاسترو، عن طريق عدة عمليات، كان أشهرها "غزو خليج الخنازير" “Bay of Pigs Invasion”. بدأ، بعدها، الاتحاد السوفيتي في بناء قواعد صواريخ نووية، قصيرة المدى، تتيح له ضرب الأراضي الأمريكية، رداً على التصرف الأمريكي بنشر صواريخ له في كل من بريطانيا، وإيطاليا، وتركيا، لتصبح له القدرة على توجيه ضربات عسكرية لموسكو، باستخدام أكثر من مائة صاروخ، مزودة برؤوس نووية. الأمر الذي دعا الرئيس نيكيتا خروشوف إلى التحالف مع كوبا، وإرسال الصواريخ السوفيتية، لتهديد الأمن القومي الأمريكي. وجاء التوقيت الحقيقي للأزمة يوم 14 أكتوبر، عندما أكدت صور الاستطلاع الأمريكية، وجود القواعد الصاروخية النووية السوفيتية.

على الفور، أصدر الرئيس الأمريكي جون كينيدي قراره بتشكيل فريق لإدارة الأزمة، وإنشاء غرفة عمليات لإدارتها، واستمع الرئيس الأمريكي لمقترحات مرؤوسيه في غرفة إدارة الأزمة. فكان المقترح الأول هو توجيه ضربة جوية-بحرية أمريكية، لتدمير هذه القواعد، إلا أن الرأي استقر، في النهاية، على فرض حظر عسكري على كوبا، وطالبت الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد السوفيتي بتفكيك تلك القواعد الصاروخية.

والواقع، أن إدارة الرئيس جون كينيدي للأزمة، كانت مثار إعجاب الشعب الأمريكي، حيث انعكست رباطة جأشه على فريق إدارة الأزمة، وهو ما ساهم في اتخاذ القرارات الحاسمة بهدوء، دون تعريض أمن وسلامة الولايات المتحدة الأمريكية إلى مخاطر الحرب النووية. كما قام الرئيس الأمريكي بتوجيه خطاب إلى الشعب، تحدث فيه بكل صراحة ... وجرأة ... عن الأزمة، وأعلن تأهب الجيش الأمريكي للقيام بعمل عسكري، وأنه فضل عدم شن ضربات جوية أو بحرية ضد كوباً، مكتفياً بفرض الحصار. ورغم إعلان خروشوف رفضه للمطالب الأمريكية علناً، إلا أن الاتصالات السرية كانت مفتوحة، بين الأطراف، للوصول إلى حلول لتلك الأزمة. ويقال أن الأمريكان انتهجوا سياسة الوصول إلى حافة الهاوية، لإجبار السوفيت على التراجع. وهو ما قد كان لهم في ظرف أسبوعين، إذ قام الاتحاد السوفيتي بتفكيك جميع صواريخه ومعداته في كوبا، وتم تحميلها على ثمانية سفن سوفيتية، في الفترة من 5 إلى 9 نوفمبر 1962. وبعدها بشهر، تم إنهاء الحصار على كوبا.

ولقد تسبب هذا الاتفاق في حرج بالغ لخروشوف والاتحاد السوفيتي، حيث اعتبر الروس هذا الحل، عار عليهم. ولقد تنحى خروشوف عن الحكم، بعد مرور عامين على تلك الأزمة (وإن كان جزئياً)، فقد اتهم خروشوف بالإسراع في وتيرة الأزمة في البداية، ثم ما لبث أن قدم تنازلات للولايات المتحة الأمريكية في النهاية.

وبدراسة، وتحليل هذه الأزمة، نجد أن هذه الأزمة أديرت، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بصورة مثالية، حيث تم إنشاء مركزاً لإدارة الأزمة في البيت الأبيض، وتم تشكيل فريق لإدارة الأزمة، وتم اقتراح سيناريوهات وبدائل لحل الأزمة، فضلاً عن تسمية الرئيس الأمريكي لمتحدثاً رسمياً عن طاقم إدارة الأزمة، مهمته التواصل مع الجهات الإعلامية عما يدور في غرفة الإدارة. كما تم تشكيل مجموعة للتفاوض، قامت بالاتصال بالجانب السوفيتي، وهو ما أدى، في النهاية، إلى الوصول إلى مخرج لهذه الأزمة، بما لا يضع الاتحاد السوفيتي في موقف ضعيف. فقد اقترح المفاوض الأمريكي على الجانب السوفيتي، أن تسحب موسكو صواريخها من كوبا، وفي المقابل تعلن الإدارة الأمريكية أنها ستقوم بسحب صواريخها من قاعدة أنجرليك التركية، التي تهدد أمن الاتحاد السوفيتي. مع العلم بأنه لم يكن هناك أية صواريخ أمريكية في تلك القاعدة التركية، إلا أن ذلك كان مبرراً لحفظ ماء وجه الاتحاد السوفيتي أمام الرأي العام المحلي والعالمي. وعلى المستوى الأمريكي والسوفيتي، كان أهم درس مستفاد هو ضرورة وجود الخط الساخن بين الرئيس الأمريكي والرئيس السوفيتي، ليكون صمام الأمان لأي مشكلة تقع بين القوتين الأعظم مستقبلاً.

في أعقاب هذه الأزمة، انتبهت المعاهد الاستراتيجية، وجهات الأمن القومي في كافة بلدان العالم، لأهمية الاستفادة من تلك الأزمة، وتطوير مفهوم إدارة الأزمات، ليصبح علماً أساسياً من علوم الدفاع والأمن القومي، له أسس وقواعد وأصول يبنى عليها، في المعاهد الاستراتيجية والكليات العسكرية حول العالم له. واليوم، في أكاديمية ناصر العسكرية العليا في مصر، تدرس دورات إدارة الأزمات، ودورات التفاوض.

ولقد أصبح الأساس للاستعداد لحدوث أي أزمة مستقبلاً، ضرورة توفر عناصر أساسية، أهمها تشكيل طاقم لإدارة الأزمة، ووجود مقر دائم لإدارة الأزمات، مزود بأحدث وسائل تكنولوجيا العصر في الاتصالات، والقدرة على تخزين أكبر حجم من البيانات، مع أهمية الإعداد المسبق لسيناريوهات الأزمات المحتملة مستقبلاً. فضلاً عن تشكيل طاقم للتفاوض، وفقاً لطبيعة الأزمة، مع تعيين متحدث رسمي للتواصل مع الإعلام في كل ما يخص تلك الأزمة. مع ضرورة الاحتفاظ بالدروس المستفادة من الأزمات السابقة، والرجوع إليها دوماً لتفاديها مستقبلاً، والتحديث الدوري للبيانات الموجودة في مركز إدارة الأزمات كل ستة أشهر على الأكثر. وأخيراً، ضرورة التواصل المستمر بين الإدارة والمواطنين، بكل شفافية، ومصداقية، خلال مراحل تطور الأزمة.وعموماً، فقد تطورت مراكز إدارة الأزمات، الآن، لنصبح على مستوى الدول، والمحافظات، والوزارات، والهيئات، وأي مؤسسة قد يرى رئيسهاأنها قد تتعرض لأية أزمات في المستقبل.

ولنا لقاءات، في الأعداد القادمة، عن أسلوب إدارة الأزمات من الناحيتين، العلمية، والعملية. وكذلك أساليب عمل مجموعات التفاوض خلال الأزمات، آملاً أن تكون هذه المقالات بداية لفكر جديد في ضرورة التعامل مع الأزمات في مختلف هيئات ومؤسسات الدولة المصرية.

Email: sfarag.media@outlook.com