العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

مارس الواقعية السياسية، حيث لعب كيسنجر دورًا بارزًا فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة بين عامى 1969 و1977.

هنرى كيسنجر وسياسة الطبق الساخن
 

لواء د. سمير فرج

 3 مايو 2025


هنرى كيسنجر هو من أهم الشخصيات السياسية فى العالم، وهو وزير الخارجية الوحيد الذى نال جائزة نوبل للسلام حول جهوده لإخراج الولايات المتحدة من مستنقع فيتنام. وهو سياسى ودبلوماسى، شغل منصبى وزير خارجية الولايات المتحدة، ومستشار الأمن القومى الأمريكى فى ظل حكومتى الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد. هو لاجئ يهودى هرب مع عائلته من ألمانيا النازية عام 1938، أصبح مستشار الأمن القومى فى عام 1969 ووزير الخارجية الأمريكى فى عام 1973. بسبب إجراءاته فى التفاوض لوقف إطلاق النار فى فيتنام، حصل كيسنجر على جائزة نوبل للسلام عام 1973.

مارس الواقعية السياسية، حيث لعب كيسنجر دورًا بارزًا فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة بين عامى 1969 و1977. خلال هذه الفترة، كان رائدًا فى سياسة الانفراج الدولى مع الاتحاد السوفيتى، ونسّق افتتاح العلاقات الأمريكية مع جمهورية الصين الشعبية، وانخرط فيما أصبح يُعرف باسم دبلوماسية الوسيط المتنقل فى الشرق الأوسط لإنهاء حرب أكتوبر، والتفاوض على اتفاقيات باريس للسلام، وإنهاء التدخل الأمريكى فى حرب فيتنام.. بعد تركه الحكومة، أسس «شركاء كيسنجر»، وهى شركة استشارات جيوسياسية دولية. كتب كيسنجر أكثر من اثنى عشر كتابًا فى التاريخ الدبلوماسى والعلاقات الدولية.

وخلال دراستى فى كلية كامبر الملكية بإنجلترا، وبعد انتهاء الفصل الدراسى الأول، طلبت الكلية من كل طالب أن يختار كتابًا من المكتبة ويقوم بتلخيصه، ويقدمه كورقة دراسية سوف يتم تقييمها كإحدى المهام الدراسية، وأعلنت أن أحسن خمسة أعمال سوف يتم عرضها على طلبة الكلية بالكامل.

لذلك ذهبت إلى المكتبة، واخترت كتابًا لهنرى كيسنجر، كان فى ذلك الوقت من أشهر السياسيين فى العالم، خاصةً أنه فى هذا التوقيت كان قد حصل على جائزة نوبل. وقمت باختيار كتابه «كيف تُدار السياسة الخارجية الأمريكية» (The American Foreign Policy)، والحمد لله نال تلخيص الكتاب ليكون إحدى أحسن خمس ورقات للدارسين فى الدورة، وتم عرض التلخيص على كل طلبة الكلية.

أما على المستوى الشخصى، فقد استمتعت تمامًا بهذا الكتاب، الذى كان أساسًا فى تحليل الفكر الاستراتيجى طوال حياتى، خاصة حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.

كان من أهم ما قدمه هنرى كيسنجر للعالم فكرة الطبق الساخن (The Hot Plate). وببساطة يمكن أن نشرح هذا الموضوع بقصة حدثت خلال التخطيط لحرب أكتوبر. عندما طلبت القوات المسلحة من الرئيس السادات أن يشارك فى خطة الخداع الاستراتيجى للحرب، على أساس أن يرسل رسالة إلى جولدا مائير أن مصر لن تحارب.

وبالفعل بدأ السادات فكرته بأن قام مستشاره للأمن القومى، حافظ إسماعيل، بالاتصال بهنرى كيسنجر وطلب منه لقاء خاصًّا على العشاء. وبالفعل تمت المقابلة فى باريس، حيث نقل حافظ إسماعيل رسالة من السادات إلى هنرى كيسنجر يطلب منه أن يفعل شيئًا لحل المشكلة بين مصر وإسرائيل، حيث كانت مصر فى ذلك الوقت فى فترة حرب الاستنزاف، التى استمرت لمدة ست سنوات، وأُطلق عليها فترة «اللا سلم واللا حرب».

وفهم كيسنجر الغرض من هذه الزيارة، لذلك عندما وصل إلى المطعم، همس فى أذن مَن يقدم الطعام وطلب منه أن يكون طبق لحم الستيك الذى يُقدّم للضيف، وهو حافظ إسماعيل، أن يكون باردًا.

وبالفعل، وصل حافظ ووجد أن طبق الستيك بارد، وكان من الصعب تناوله. وهنا نظر إليه كيسنجر، وقال له: «يا عزيزى، إن طبقك بارد، لذلك لا يمكن أن تتناوله، وكذلك فى السياسة، نحن لا نقترب من الطبق البارد».

وهنا نادى كيسنجر على مقدم الطعام وقال له: «يجب أن يتم تغيير الطبق من اللحم الستيك البارد ليكون ساخنًا».

وهنا كان الدرس الذى قدمه هنرى كيسنجر. ونظرية الطبق الساخن ليست فقط فى الطعام، ولكن فى السياسة كذلك. ولذلك، مادامت الأوضاع على جبهة قناة السويس باردة، فهى لا سلم ولا حرب، لذا يجب أن تتحول إلى طبق ساخن، ويجب أن يشتعل القتال حتى يبدأ الجميع فى التعامل مع الموقف. يا عزيزى، هذه سياسة الـ Hot Plate، أى أنه يجب أن تتحول منطقة القناة مع إسرائيل إلى حرب ساخنة حتى يمكن أن يتدخل الجميع ونبدأ فى التفكير فى أن نجد حلًّا لهذه المشكلة. لأن إسرائيل لا شك أنها سعيدة بهذا الوضع، فهى تحتل سيناء بالكامل، والعَلَم الإسرائيلى فوق قناة السويس، وما الذى يمكن أن يحرك هذه المشكلة إلا أن يكون «طبقًا ساخنًا»، وتشتعل المنطقة.

وعاد حافظ إسماعيل إلى مصر، وأبلغ السادات بذلك. وهنا فرح السادات لأن هنرى كيسنجر ابتلع الطعم، وما علينا إلا أن ننتظر ونرى. وبعد ذلك بأسبوعين طلب هنرى كيسنجر مقابلة حافظ إسماعيل مرة أخرى، وبلّغه أن السادات مقتنع بذلك الرأى.

ولكن للأسف، لقد خذلنا الاتحاد السوفيتى، ورفض إمداد مصر بأسلحة هجومية، لذلك قام السادات بطرد الخبراء السوفييت من مصر. ولم يعد لدينا غيرك يا كيسنجر لكى تحل هذه المشكلة، مثلما فعلت مع أمريكا فى فيتنام، وقمت بحل أكبر مشكلة واجهت أمريكا فى العصر الحديث.

وابتلع هنرى كيسنجر الطعم، واتصل على الفور بالسيدة جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل، وأبلغها أن السادات غير قادر على الحرب، ويجب أن نفكر فى حل سلمى.

واقترحت جولدا مائير أن تنسحب إسرائيل من ضفة القناة إلى العمق فى سيناء 30 كيلومترًا على مدخل المضايق لكى تعيد مصر تشغيل قناة السويس، على أن تأخذ إسرائيل 50? من دخل القناة.

واقتنعت جولدا مائير بأن مصر لن تحارب، حتى إن فيلم جولدا مائير، الذى أنتجته هوليوود فى العام الماضى، عرض أنه فى يوم 6 من أكتوبر 1973، 10:00 صباحًا، أبلغها رئيس الأركان الإسرائيلى أن الحشود المصرية على قناة السويس توضح أن مصر سوف تهاجم، وأنه يطلب الآن تنفيذ ضربة استباقية لتدمير القوات المسلحة المصرية قبل الهجوم. لكنها قالت له: «إن المصريين لن يهاجموا، لقد أبلغنى هنرى كيسنجر بذلك، وأنا أثق به».

وعندما جاءت الثانية ظهرًا وبدأ الهجوم المصرى، وجدت جولدا مائير أنها تم خداعها بفضل الرئيس السادات، رحمه الله.

ولكن تظل نظرية الطبق الساخن، التى قدمها هنرى كيسنجر للفكر الاستراتيجى العالمى، نظرية يتم العمل بها فى كل الأوقات. وهذا ما أظهره مؤخرًا العديد من التحليلات، بأن عملية المقاومة الفلسطينية يوم 7 من أكتوبر كانت بفكرة الطبق الساخن، حيث حرّكت الأوضاع فى المنطقة، وبدأ الجميع يبحث عن حل للمشكلة الإسرائيلية الفلسطينية



Email: sfarag.media@outlook.com