العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

لكننا أيضًا كنا ننتظر كل يوم جمعة على إذاعة صوت العرب لنسمع مقالته الأسبوعية «بصراحة»، فلقد كان الإعلامى الأوحد، الذى يحلل ويشرح ويوضح.

الأستاذ هيكل 100 عام.. وأنا
 

لواء د. سمير فرج

 30 سبتمبر 2023


هو من أعظم الكُتاب الصحفيين والمحللين والمفكرين فى مصر والعالم العربى فى العصر الحديث. 70 سنة صحافة فى الكثير من المقالات والتحليلات والمقابلات الصحفية مع معظم رؤساء العالم، حتى أصبح أيقونة الصحافة، التى لن تتكرر مرة أخرى. وكانت علاقتى معه فى البداية ليست طيبة، وأنا طفل صغير، عندما كان والدى، رحمه الله، يطلب منى كل يوم جمعة إجازتى أن أرتدى ملابسى لأُحضر له صحيفة الأهرام فى الصباح.

ليقرأ مقالة الأستاذ هيكل، «بصراحة»، ومرت السنوات، والتحقت بالكلية الحربية، وتخرجت، وسافرت لأقاتل فى حرب اليمن. ثلاث سنوات كانت الخيط الوحيد الذى يربطنا بمصر، هى مقالة الأستاذ هيكل «بصراحة»، التى كانت تُذاع عبر إذاعة صوت العرب، وكنا نجتمع أنا وكل ضباط الكتيبة لنستمع لكى نعرف ما يدور فى مصر والعالم، وعدت إلى مصر مع بداية عام 67.

وجاء شهر مايو لنتحرك إلى سيناء مع القوات المسلحة، وجاء يوم 5 يونيو، وأنا على خط الحدود، فى منطقة الكونتيلا، حيث قامت إسرائيل بتنفيذ ضربتها الجوية ومهاجمة سيناء، وانسحبنا إلى قناة السويس، بعد أن فقدنا كل أسلحتنا فى سيناء.

كانت هزيمة، لكن هيكل أطلق عليها النكسة لتجنب أثر كلمة الهزيمة على الشعب المصرى، وخلال ست سنوات خلال فترة حرب الاستنزاف. أصبحت غاضبًا عليه مرة أخرى لأنه انتقد بشدة القوات المسلحة فى حرب 67، والتى لم يكن لنا فيها ناقة ولا جمل، لكننا أيضًا كنا ننتظر كل يوم جمعة على إذاعة صوت العرب لنسمع مقالته الأسبوعية «بصراحة»، فلقد كان الإعلامى الأوحد، الذى يحلل ويشرح ويوضح.

ومرت السنوات، وجاءت لحظة حرب أكتوبر 1973، كنت فى ذلك اليوم فى غرفة عمليات حرب أكتوبر، وفى صباح 6 أكتوبر حضر الرئيس السادات إلى غرفة العمليات صباحًا، وبعد وصوله تقدم له اللواء الجمسى ليوقع على التوجيه الاستراتيجى، وهى المهمة التى يعطيها رئيس الدولة للقوات المسلحة للقيام بالعملية الهجومية، وبالفعل وقّعها الرئيس السادات، لكنه قال: سوف أرسل لكم غدًا الأستاذ هيكل لمراجعة أى مصطلحات سياسية واستراتيجية فى هذا التوجيه.

وفى اليوم التالى السابع من أكتوبر، حضر الأستاذ هيكل، وكانت المرة الأولى التى أراه، وبينى وبينه أمتار قليلة، استقبله الفريق أحمد إسماعيل والشاذلى والجمسى، وتفهم الموقف منهم على خريطة العمليات التى كنت مسؤولًا عنها، وقام بتعديل بعض الألفاظ فى التوجيه الاستراتيجى. وعلى الفور، خرج أحد الضباط إلى الرئاسة ليوقع السادات على المنطوق الجديد للتوجيه الاستراتيجى.

وخلال الحرب حضر الأستاذ هيكل عدة مرات إلى غرفة العمليات لكى يتابع على الخريطة الموقف وأوضاع قواتنا وقرارات القوات المسلحة المصرية، وانتهت الحرب، وسافرت فى بعثة إلى بريطانيا. وفى أول أسبوع وأنا هناك، شاهدته على محطة BBC البريطانية فجأة على القناة الإخبارية، حيث تعرض الخبر الثالث فى النشرة: وصول الكاتب المصرى حسنين هيكل إلى بريطانيا لكى يوقع نشر كتابه الجديد «الطريق إلى رمضان» مع أكبر صحيفة فى بريطانيا التايمز، التى تماثل جريدة الأهرام فى مصر، وتوالت الاحتفالات فى بريطانيا بهذا الضيف المميز.

كان كل يوم على شاشات BBC البريطانية، وبعدها بأسبوعين، وفى نهاية الأسبوع يوم الأحد، توجهت إلى لندن، وأثناء خروجى من محطة مترو الأنفاق فى هايد بارك كورنر، وجدت الصبى الإنجليزى يوزع الصحف وينادى Road to London هيكل تايمز، ولم أصدق أن كتاب هيكل يوزع على الصحف، وينادَى عليه، والحق أقول إن كتاب هيكل كان هو الوحيد الذى صدر من مصر عن حرب أكتوبر 1973.

بينما إسرائيل أصدرت أيامها العديد من الكتب عن حرب أكتوبر. وعدت إلى مصر، وكان هيكل مازال هو نجم الصحافة الأول فى العالم العربى والشرق الأوسط. وعندما أصبحت مدير الشؤون المعنوية، كنت أقوم بإنتاج أفلام تسجيلية عن حرب أكتوبر، وكانت الحلقة الأولى عن نكسة 67، وبالطبع لم يكن هناك إلا الأستاذ هيكل ليتكلم عن هذه الفترة، وكانت المرة الأولى التى أحادثه فيها تليفونيًّا، ولكنه اعتذر عن عدم الاشتراك فى الفيلم التسجيلى. وكان سبب اعتذاره غريبًا.

ومرت الأيام والسنوات، وكنت لا أزال من مريدى الأستاذ هيكل، الذى كان أيقونة الصحافة العربية، وفى أحداث 25 يناير، كنت عضوًا فى المجلس العسكرى، وفى يوم من الأيام كلفنى المشير طنطاوى بمقابلة الأستاذ هيكل لكى نبحث معه بعض الموضوعات، وذهبت إلى منزله على نيل القاهرة أمام نادى التجديف، حيث لديه فى دور واحد شقة للإقامة، والشقة الأخرى لمكتبه.

واستمرت المقابلة الأولى لمدة 4 ساعات كاملة. استمتعت بهذا اللقاء، ذكاء خارق، ذاكرة لا يتخيلها بشر للأحداث والأرقام. ويومها، أهدانى نسخة من إصداراته، عليها توقيعه، وطلبت تسجيلات قناة الجزيرة، التى تحكى قصة ثورة يوليو، ولكن للأسف لم تكن موجودة لديه.

وتوالت اللقاءات بيننا، وكنت مبعوثًا من سيادة المشير من المجلس العسكرى، وأتذكر أحدها عندما طلب منه المشير طنطاوى السفر إلى إحدى الدول العربية لمهمة ما، وما إن جلست حتى أخذ ورقة كتب فيها اللواء سمير فرج اليوم والتاريخ، الغرض من السفر، نقاط المناقشة، وأعتقد أن ذلك كان أسلوبه المتفرد لتسجيل الأحداث التاريخية.

وأعتقد أن لقاءاته مع الأستاذة لميس الحديدى كانت من أهم الأحداث فى حياتها الإعلامية، وتاريخها، حيث نتابع الآن على شاشات الإنترنت يوميًّا هذه اللقاءات.

عمومًا، غادر هذا الرجل العظيم حياتنا ليكون أهم علامة مضيئة صحفية فى العصر الحديث ليس فى مصر ولكن فى المنطقة كلها، وسوف تعتز مصر دائمًا بأنه كان بين رجالها محمد حسنين هيكل.



Email: sfarag.media@outlook.com