العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

كان الفريق الشاذلي، خلال نقاشه معنا، يفكر فى حلول مصرية، تعتمد على الموارد المصرية، فخرج من ذلك النقاش بفكرة مضخات الدفع المائي، التى ابتكرها المقدم باقى زكى يوسف، لاقتحام خط بارليف. وركز على أسلوب سد فتحات النابالم، وعلى الدفع بمجموعات قنص الدبابات، لمنع الدبابات الإسرائيلية من التدخل فى عملية العبور.

شخصيات فى حياتى (5).. الفريق سعد الدين الشاذلى
 

لواء د. سمير فرج

 20 ديسمبر 2018


علم من أعلام العسكرية المصرية، لمع اسمه منذ أن كان برتبة الملازم، عام 1941، بعد نجاحه فى المهمة المُكلف بها، لتدمير المعدات العسكرية للقوات البريطانية، والمصرية، لمنع القوات الألمانية من الاستفادة منها، فى أثناء تقدمها فى اتجاه العلمين، خلال الحرب العالمية الثانية. وذاع صيته، أكثر وأكثر، وهو برتبة المقدم، عندما تولى قيادة كتيبة مظلات مصرية، ضمن قوات الأمم المتحدة، فى الكونجو. وفى عام 1967، قاد وحدة من القوات الخاصة، فى سيناء، عُرفت باسم مجموعة الشاذلي، ونجح فى العودة سالماً، بقواته، ومعداته، من حرب يونيو 67، وكان آخر القادة المنسحبين، من سيناء. اكتسب سمعة كبيرة، وتم تعيينه قائداً للقوات الخاصة، المكونّة من الصاعقة والمظلات، وكانت تلك المرة الأولى، والأخيرة، فى تاريخ الجيش المصري، التى يتم فيها توحيد قيادة قوات الصاعقة والمظلات معاً.

بعد ثورة التصحيح، وفى 16 مايو 1971، عينه الرئيس السادات، رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة المصرية. خلال حرب الاستنزاف، أصدر، الفريق الشاذلي، عدداً من الكتيبات الصغيرة، عُرفت باسم توجيهات رئيس الأركان، يحملها، الضابط أو الجندي، فى جيبه، مدوناً بها الأحداث التى كانت تمر بالقوات، فى حرب الاستنزاف، والخبرات المُكتسبة، للاستفادة منها مستقبلاً. ثم جاءت اللحظة الحاسمة، بضرورة وضع خطة لحرب أكتوبر 73، وكان أعقد مراحلها، هو عبور المانع المائى المتمثل فى قناة السويس، واقتحام خط بارليف الحصين. فأصدر، الفريق الشاذلي، أوامره بتشكيل لجنة خاصة لإعداد التوجيه 41، لوضع الخطة التفصيلية لعبور قناة السويس واقتحام خط بارليف، متضمنة الحلول، والبدائل، المناسبة لتخطى معوقات عملية العبور.

أذكر، فى أثناء دراستي، بكلية أركان حرب، وقبل الحرب بأشهر قليلة، أن أبلغنا مدير الكلية، بأن الفريق سعد الشاذلى سيقضى يومين كاملين مع الطلبة، لمناقشة التوجيه 41، والحقيقة أن الفريق الشاذلى كان مشهودا له بالذكاء الحاد، وحسن استخدام جميع أدواته؛ فبعد دراسات لمدة شهور، لإعداد خطة العبور، لم يجد أنسب من مناقشة هذا التخطيط، مع النخبة المتميزة من ضباط القوات المسلحة، بجميع أفرعها، الذين تعمقوا فى الدراسة النظرية لمدة عام ونصف العام، بكلية أركان حرب. وبالفعل، تم توزيع التوجيه 41، على الدارسين، قبل اللقاء بعدة أيام لدراسته، ولم يصرح لنا، بالطبع، بالخروج من الكلية. والحقيقة أننى كنت ممن فوجئوا بحجم العمل الموضوع، ودقة تفاصيله. ولقد حققت مناقشة تلك الخطة، على مدى يومين كاملين، غايتها، فلقد وضع الفريق الشاذلى جميع مشكلات عملية العبور واقتحام خط بارليف، أمام المخطط المصري، الذى أوجد بدوره الحلول المناسبة لها. كان الفريق الشاذلي، خلال نقاشه معنا، يفكر فى حلول مصرية، تعتمد على الموارد المصرية، فخرج من ذلك النقاش بفكرة مضخات الدفع المائي، التى ابتكرها المقدم باقى زكى يوسف، لاقتحام خط بارليف. وركز على أسلوب سد فتحات النابالم، وعلى الدفع بمجموعات قنص الدبابات، لمنع الدبابات الإسرائيلية من التدخل فى عملية العبور. ثم جاءت مشكلة اقتحام النقاط الحصينة لخط بارليف، حيث تم تكوين قوة خاصة لكل نقطة، فوضعت خطة مهاجمة كل نقطة، وفقاً لوضعها. كما تمت دراسة عوامل تغير سرعة التيار، فى القناة، وعوامل المد والجزر. ولعل أكبر المشكلات التى واجهت مجموعة تخطيط الضربة الأولى، كانت عبور قوات المشاة، فى 12 موجة، بالقوارب المطاطية، ومواجهته للاحتياطات المدرعة الإسرائيلية، دون الدبابات التى ستصلنا بعد 8 ساعات، بنزول الكباري. وبحسابات دقيقة جداً، تم تحديد عدد الصواريخ المضادة للدبابات، مع كل موجة. حتى إنه بعد حرب 73، غيرت قوات حلف الناتو، فى أوروبا، خطة الدفاع المضاد للدبابات، بناءً على نجاح المصريين فى هذه الحرب، من قيام المشاة المنفردة، دون الدبابات، من ضمن الاحتياطيات المدرعة. وكان ذلك بفضل فكر الفريق الشاذلي. لقد عالج التوجيه 41، 132 مشكلة، كانت تقف عائقاً، أمام المخطط المصري، بعد مناقشات تفصيلية، أدارها الفريق الشاذلى بنفسه، من خلال نقاش ديمقراطي، وعلمي، وعسكري، وميداني، كان بمثابة المراجعة النهائية للخطة التفصيلية للعبور.

تخرجنا فى كلية الأركان حرب، استعداداً للحرب، ونظراً لتفوقى الدراسي، وتقدم مركزي، فقد تم توزيعى على هيئة العمليات، فكان لى شرف الوجود، طوال فترة حرب أكتوبر، فى غرفة العمليات الرئيسية للحرب، وحضرت كل أحداثها، بدءاً من وصول الرئيس السادات، والمشير أحمد إسماعيل، والفريق الشاذلي، واللواء الجمسى، إليها. وانتهت الحرب بانتصارنا، ودون خلاف على احترافية أداء الفريق الشاذلي. وفى 13 ديسمبر 1973، أصدر الرئيس السادات، قراراً بتعيين اللواء الجمسى رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة المصرية، خلفاً للفريق الشاذلي. ودون الخوض فى تفاصيل وحيثيات ذلك القرار، إلا أنني، حقيقة، أرى أن الفريق الشاذلى تعرض إلى ظلم واضح؛ ففى غمرة أفراح مصر، وتكريمها أبطال حرب أكتوبر 73، فى مجلس الشعب، كان ذلك البطل يجلس وحيداً فى منزله، يتابع التكريم على شاشة التلفاز، وكأنه لم يشارك، وبدور أساسى وعظيم، فيما حققته قواتنا فى حرب 73. بعدها أصدر الرئيس السادات، قراراً بتعيينه سفيراً لمصر فى لندن، وبعدها سفيراً بالعاصمة البرتغالية، لشبونة. واستقال الفريق سعد الدين الشاذلي، وسافر للعيش فى الجزائر.

انتقد الفريق الشاذلي، بعد ذلك، الرئيس السادات، لتوقيعه معاهدة كامب ديفيد، وتطورت الأمور بعدما كتب مذكراته عن حرب أكتوبر، والتى أحيل بسببها إلى المحاكمة العسكرية، بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، وحُكم عليه بالسجن.

ولقد كرمه المشير طنطاوي، بإعادة صورته فى بانوراما حرب 6 أكتوبر، وكرمه الرئيس السيسي، عندما أطلق اسمه على واحد من المحاور الرئيسية الجديدة، من مصر الجديدة إلى الطريق الدائري. وفى النهاية، ومهما تكن الخلافات السياسية، فإن العظماء، وأعمالهم الجليلة، يحفرون أسماءهم فى وجدان الشعوب، ومنهم الفريق سعد الدين الشاذلي، بكل ما بذله من عطاء، فى مشواره الطويل فى القوات المسلحة، وفى تخطيطه وإدارته لحرب أكتوبر سيظل فى ذاكرة الأمة. ورغم التأخر فى تكريمه، فإن التاريخ لا ينسى عظماءه ... فلقد كان بطلاً مخلصاً، وقائداً عظيماً.



Email: sfarag.media@outlook.com