العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

وعدنا من اليمن ... وكانت نكسة 67 ... فكنا على الجبهة، كل ليلة جمعة، نستمع إلى مقال هيكل

محطات مع الأستاذ هيكل
 

لواء د. سمير فرج

 25 فبراير 2017


تتوالى الأيام والسنين ... وتخطف منا الحياة ... رموزاً عظيمة من شتى المجالات فى هذا الوطن. فقد أضاء سماء مصرنا، ووطننا العربى أجمع، قطبيا الغناء أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهما كثيرون، كما زينها أدب نجيب محفوظ، وأنارها علم أحمد زويل. وللأسف منذ رحيل هؤلاء العظماء لم نر من يحل محلهم أو يهتدى بنورهم، وأسأل نفسى فى تعجب، عما إذا كانت أرضنا الطيبة حزنت لفقدانهم، فأبت أن تنجب أشباههم، أم أنها أيقنت أن القادمين قد يهملون استكمال المسيرة، فأرادت أن تخلد أسماء هؤلاء العظماء بأعمالهم.

وإذ إن الموت هو سنة الحياة، فقد أفل منذ عام كامل، كوكب آخر ممن أناروا الطريق للكثيرين فى مصر، والوطن العربي، والعالم ...محمد حسنين هيكل ... الكاتب الرائع، والمفكر، والمحلل، وجامع تاريخ مصر فى العصر الحديث ... فنال عن ذلك شهرته، واحترام وتقدير الجميع له.

ولقد كان لى فى مسيرتي، محطات صغيرة، من وجهة نظرى المتواضعة،مع ذلك الأيقونة ... كانت أولاها وأنا ضابط صغير، فى بداية أيام شبابي، محارباً أعلى جبال اليمن، لمدة ثلاث سنوات متواصلة، إذ كنا ننتظر، أنا وزملائى فى الكتيبة،مساء كل جمعة،عندما تطل علينا إذاعة صوت العرب بقراءة مقال محمد حسنين هيكل «بصراحة»، باعتباره سبيلنا الوحيد، ورابطنا الموثق لما يدور فى مصر والعالم العربى ... ورغم مرور السنوات، لم تمح من ذاكرتي، يوماً، كلمات مقاله الشهير «يا جبال صرواح ... رفقاً بأبناء النيل».

وعدنا من اليمن ... وكانت نكسة 67 ... فكنا على الجبهة، كل ليلة جمعة، نستمع إلى مقال هيكل «بصراحة» ... وبالرغم من قسوة تحليلاته، آنذاك، وشدة انتقاده للقوات المسلحة المصرية لما حدث فى مبادرة القتال فى سيناء، إلا أننا لم ننقطع، يوماً، عن الاستماع له، والاستنارة بفكره، موقنين أن الحقيقة مؤلمة فى كثير من الأحيان ... وبالرغم من كوننا الجنود المحاربين على الجبهة، وحولنا قياداتنا، فإننا من فرط ثقتنا فى تحليلات الأستاذ هيكل، كنا ننتظر مساء كل جمعة، وكأننا سنعرف منه موعد تحرير الأرض ... خاصة مع تحوله من مرحلة النقد إلى مرحلة بث الأمل.

ارتبطت بهذا البطل منذ طفولتى وأنا أرقب حرص والدى على متابعة جميع مقالاته، وحتى شبابى وأنا جندى محارب فى اليمن وعلى الجبهة المصرية ... ارتبطت به، وأنا لم أره يوماً، ولكنى كباقى المصريين، عرفته جيداً، من سطور مقالاته ... حتى جاء يوم 6 أكتوبر 73 ... ووضعتنى الظروف فى مركز القيادة الرئيسى للقوات المسلحة، أو «مركز 10» كما يطلق عليه،ومع بدء الحرب،وفى نشوة الانتصار يوم 7 أكتوبر، تقدم العقيد صلاح فهمى إلى اللواء الجمسى رئيس هيئة العمليات، قائلاً:«يا فندم ليس لدينا وثيقة تكليف القوات المسلحة بالحرب»... وهو ما يعرف لدينا، كعسكريين، «بالتوجيه الاستراتيجى للحرب» ... وهى الوثيقة التى تصدر من القائد الأعلى،أى رئيس الجمهورية، لقواته المسلحة كمهمة لشن هذه العملية العسكرية، وخاصة أنها أول وثيقة توضع فى سجلات الحرب. وهنا كلف اللواء الجمسى العقيد صلاح فهمي،أحد ضباط فرع التخطيط، بكتابة الشق العسكرى من التوجيه الاستراتيجي. وتم إبلاغ الرئيس السادات، فحضر، مباشرة، إلى مركز القيادة، ومعه محمد حسنين هيكل، مكلفاً إياه بكتابة الشق السياسى ... وكان ذلك أول لقاء، وجهاً لوجه، مع محمد حسنين هيكل، فتابعت جلساته مع العقيد صلاح فهمي، الذى رحل عنا، أيضاً، منذ عدة أسابيع، وخلص من تلك الجلسات إلى كتابة الجزء الخاص به من التوجيه الاستراتيجى لحرب أكتوبر 73. وبالرغم مما أشار إليه الأستاذ هيكل فى كتابه، من أنه من كتب ذلك التوجيه، إلا أن الأمانة تقتضى توضيح الفرق بين الشق السياسي، والشق العسكري، وهو الجزء القوي، الذى تولاه العقيد صلاح فهمى نحلة، رحمةالله عليه.

أما المحطة الثانية، مع الأستاذ هيكل،فكانت عام 75، عندما كنت طالباً فى كلية كمبرلى الملكية بإنجلترا، وبينما أتابع نشرة أخبار التاسعة مساء، على محطة BBC ،فإذا بالخبر الثالث فى النشرة عن وصول الصحفى المصرى محمد حسنين هيكل، إلى إنجلترا، لحضور حفل إصدار كتابه عن حرب أكتوبر73، باسم «الطريق إلى رمضان» «Road to Ramadan»، بالتعاون مع جريدة التايمز الإنجليزية ... غمرنى الفخر وأن أرى وأسمع خبر وصوله، يسبق الأخبار عن رئيس الوزراء البريطاني.

وفى صباح اليوم التالي، يوم الأحد، كنت على موعد مع نزهتى الأسبوعية، شبه المجانية،فى متاحف لندن التى كانت تفتح أبوابها مجاناً للجمهور كل أحد ... وحيث كنت أول ضابط مصرى يحضر إلى إنجلترا للدراسة، بعد فترة انقطاع طالت لمدة 20عاماً، فقد كان راتبى 124 جنيها، وتكلفة فاتورة السكن 125 جنيها، ونظراً لضآلة الراتب، الذى تم تعديله بالطبع فى سنوات لاحقة، فقد كنت أخطط للنزهة الأسبوعية بميزانية لا تتخطى جنيهاًإسترلينياً واحداً، هو ثمن تذكرة القطار ذهاباً وإياباً، إلى لندن، وثمن تذكرة مترو الأنفاق إلى منطقة المتاحف بوسط لندن، وأخيراً ساندويتش صغير، فى منتصف اليوم، حتى العودة لتناول العشاء فى الكلية. وبالفعل بدأت رحلتى من الكلية فى صباح ذلك اليوم، حتى وصلت إلى ميدان ترافلجار«Trafalgar Square»، لأسمع صيحات ذلك الصبى الإنجليزي، ينادي«Road to Ramadan ..Heikal.. Sunday Times»، فلم أصدق أذنى ... فى ميدان ترافلجارفى وسط لندن ... بائع الصحف ينادى على كتاب هيكل المنشور فى جريدة صنداى تايمز ... أهم وأكبر جريدة فى إنجلترا، بل وأوروبا، فى ذلك الوقت. وبادرت، على الفور، لشراء نسخة من الجريدة، متنازلاً عن وجبة الغذاء الخفيفة، بالرغم من علمى بوجود الجريدة فى الكلية، إلا أننى لم أستطع الانتظار حتى موعد عودتى فى المساء. وجلست على أقرب مقعد، أقرأ مقال هيكل، وأنا تنتابنى الرغبة فى الصراخ، فرحاً وفخراً، «ياأيها الإنجليز... هذا الكاتب مصري». وللحق أقول إنه لم يتناول أحد من قبل، أو من بعد، حرب أكتوبر 73 من منظور علمي، مثلما تناولها الأستاذ محمد حسنين هيكل ... حتى الإسرائيليين الذين أصدروا أكثر من عشرين كتاباً عن «حرب يوم الغفران»، 4 منها للجنرال شارون، لم يرتقوا فى أى منها إلى تحليلات هيكل عن الحرب. وفى اليوم التالي، كان الجميع قد تعرف على كتاب هيكل، واطلع على ما نشر منه فى الجريدة، واستضافت معظم البرامج، على مختلف القنوات التليفزيونية، الأستاذ هيكل ليحدثهم عن كتابه ومضمونه، فكان خير سفير لمصر ... ولملحمة حرب أكتوبر العظيمة.

جاد على الزمان بمحطات أخرى مع الأستاذ هيكل، عندماأصبحت مديراً للشئون المعنوية للقوات المسلحة المصرية، وبدأت فى الإعداد لمجموعة أفلام وثائقية عن حرب أكتوبر 73، خاصة أننى لم أر، منذ انتصارنا فيها، أى عمل فنى يتناولها، بواقعية، من الجانب الإنساني.فكان تخطيطى لهذه الأفلام الوثائقية أن تصدر فى 13 حلقة ... الأولى عن نكسة 67، كمحرك لحرب أكتوبر 73 ... ثم 6 حلقات عن حرب الاستنزاف وفترة التجهيز والإعداد والتخطيط للحرب ... وأخيراً 6 حلقات عن اقتحام قناة السويس و باقى أعمال القتال التى كللت بالنصر. ورأيت أنه لا يصح إلا أن يكون الأستاذ هيكل هو المتحدث الرئيسى فى الحلقة الأولى عن هزيمة 67،لإلمامه التام بجميع جوانب وتفاصيل تلك المرحلة ... فاتصلت به تليفونياً، وأطلعته على الفكرة، فأشاد بها، ولكننى فوجئت باعتذاره الشديد، بأدب جم، معللاً ذلك بأن صفوت الشريف لن يسمح بإذاعة تلك الحلقات. فأوضحت له أن هذا العمل الوثائقى يخص القوات المسلحة، ولكنه أصر على موقفه ... ربما لأن حساباته كانت أقوى من محاولة إقناعه.والغريب أن نفس الشيء تكرر مع المشير أبو غزالة ... فقد اعتذر عن المشاركة فى هذه الحلقات، ولنفس السبب!! واحتراماً لرغبتيهما، خرجت هذه الأفلام الوثائقية عن حرب أكتوبر، خالية من شهادتيهما، وأحمد الله أن معظم القادة كانوا موجودين فى هذا التوقيت، لتخرج هذه الافلام بصورة رائعة لتجسد ملحمة حرب أكتوبر بشهاداتهم الحقيقية، بما فيها وثيقة سعد الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة أثناء الحرب، وهو ما أظنه التسجيل الوحيد له خلال هذه الفترة.

وجمعتنى محطة جديدة بالأستاذ هيكل خلال فترة ثورة 25 يناير 2011، عندما كنت المستشار الإعلامى للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، فقابلت الأستاذ هيكل عدة مرات ... وبالرغم من أسفى لعدم تمكنى من الإفصاح عما دار بيننا فى تلك اللقاءات، لاعتبارات عديدة ...لكننى أستطيع أن أؤكد استفادتنا العظيمة من خبرة وآراء وتحليلات هذا الرجل العظيم وكذلك رؤيته المستقبلية.وبجانب انبهارى بخبرته، فقد أبهرني، فى تلك اللقاءات، قوة ودقة ذاكرته فيما يتعلق بالأرقام والتواريخ والأحداث، بالرغم من تقدمه فى السن، فتعجز عن ألا تعتبره إلا أسطورة.

وأثناء تلك الفترة، أهداني،الأستاذ هيكل، نسخة من جميع كتبه، كان أهمها، بالنسبة لي، كتابه «الطريق إلى رمضان» لما أحمله له من ذكريات طيبة، عندما شهدت صدوره فى لندن، باللغة الإنجليزية، وأنا ضابط يدرس فى إنجلترا. وطمعاً فى كرمه، طلبت منه نسخة من حلقاته الوثائقية التى قدمها على قناة الجزيرة، التى تحكى عن فترة ثورة يوليو 52 ... و ما قبلها وما تلاها ... إذ كنت أتابع تلك الحلقات بشغف كبير، فهى التى وثقت تاريخ مصر فى فترة مهمة بكل دقة وبالوثائق ... خاصة أن الأستاذ هيكل كان شاهد عيان. ووعدنى الأستاذ هيكل بإرسال نسخة، ولكن وافته المنية قبل ذلك فكانت خسارتنا فيه عظيمة. ولقد كتبت مقالاً فى جريدة الأهرام، يوم رحيل الأستاذ هيكل، ناشدت فيه وزارة الثقافة، تخصيص جزء من متحف ثورة يوليو 52، لكتاباته ووثائقه عن تلك الفترة، خاصة أنه يملك أصول العديد من الوثائق ...واليوم أرجو أن يكون السيد وزير الثقافة قد استجاب لهذا المطلب. وهنا لا يفوتنى الإشادة، بوفاء مؤسسة الأهرام، تكريمها لاسمه هذا العام، وأرجو منها بذل الجهد، والتعاون مع جميع الجهات المعنية، لجمع وثائق الاستاذ هيكل فى متحف خاص به. وهو ما لا آراه بعيداً عن المؤسسة التى تشهد بالتطور الرائع الذى قدمه هيكل لها.

ووصلت إلى المحطة الأخيرة مع العظيم الراحل الأستاذ هيكل ... عندما بدأ تسجيل حلقاته مع الإعلامية المتميزة لميس الحديدى ... فاتصلت به، بعد الحلقة الأولى، لأشكره على الحلقة الرائعة، وكم المعلومات التى يغدقها علينا، وأثنى على حسن اختياره للأبيات الشعرية التى ربطها بالأحداث السياسية، واتفقنا فى الرأى على أن الأسئلة المتلاحقة من لميس الحديدي، لم تمكنه من سرد كل ما لديه من معلومات. ونظراً لما يجمعنى من علاقة طيبة بالعزيزة لميس، فقد اتصلت بها لأقدم التهنئة على هذا الانفراد والسبق الإعلامى الرائع، ومازحتها قائلاً :«هدى الأمور شوية»، وأنا أعلم مسبقاً أن حماسها لمحاورة قامة مثل محمد حسنين هيكل، إضافة إلى تفانيها فى عملها هو ما يدفعها للتسابق لإخراج كل ما فى جعبة هذا الرجل العظيم، كذلك أعلم أن ذكاءها الإعلامى كفيل بأن يجعلها تعى المقصد من مزحتي. وجاءت الحلقة الثانية فى الأسبوع التالي... وفى هذه المرة،اتصل بى الأستاذ بنفسه، وبتواضع شديد سألنى عن رأيى وتعليقى على الحلقة، وضحكنا معا وهو يقول: «أنا متأكد إنك كلمت لميس قبل تسجيل الحلقة دي». وكانت هذه المكالمة هى الأخيرة مع هذا العظيم ... أيقونة الإعلام والصحافة المصرية والعربية.

واذكر أننى تحاورت طويلاً، من قبل، مع صديقى الراحل عبد الله كمال، الذى كان أحد ألمع الكتاب فى بلاط صاحبة الجلالة المصرية، عندما بدأ سلسلة من المقالات، هاجم فيها الأستاذ هيكل، وبالرغم من اعتقادى بمعرفة الأسباب وراء ذلك الهجوم، وبالرغم من حرية الاختلاف مع فكر الأستاذ هيكل، إلا أننى نصحت، صديقى عبد الله كمال، بعدم المساس بشخص الرجل لأنه رمز كبير. ولم يعلق عبد الله كمال، رحمة الله عليه، ولكن أثبتت الأيام اللاحقة أنه استمع للنصيحة.

قد يتفق البعض أو يختلف مع آرائه، ولكن سيظل الأستاذ هيكل، رحمة الله عليه،بالإجماع، علامة بارزة فى الصحافة المصرية والعربية، وأسطورة نتمنى من الله أن تجود الأرض المصرية بمثله فى المستقبل.



Email: sfarag.media@outlook.com