العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

وأعتقد أن هذا الكتاب وضعنى في بداية حياتى المهنية، وأنا أتعلم فنون الاستراتيجية والسياسة من كتاب هذا الثعلب السياسى العجوز، الذي تُوفى الأسبوع الماضى عن عمر يناهز مائة عام.

هنرى كيسنجر والأطباق الساخنة
 

لواء د. سمير فرج

 9 ديسمبر 2023


خلال زياراتى ومحاضراتى في الجامعات المصرية، وبعد أن انتهيت من إحدى المحاضرات في إحدى الكليات، تقدم لى أحد الطلبة بسؤال: هل كان هجوم حماس يوم 7 أكتوبر الماضى على إسرائيل يستحق كل هذه التكلفة من الخسائر، التي تكبدها الشعب الفلسطينى، الذي خسر حتى الآن 16 ألف شهيد وآلاف المفقودين تحت أنقاض المنازل المهدمة، و35 ألف جريح.

وهذا الحجم الكبير من التدمير في البنية الأساسية في المياه والكهرباء والطرق والاتصالات والمستشفيات... إلى آخره، ثم هدم أكثر من 50% من مبانى قطاع غزة، وتشريد الآلاف الذين فقدوا منازلهم، ويعيشون الآن في برد الشتاء القارس تحت الخيام المُهدَّمة، حتى الأطفال الذين فقدوا مدارسهم وأصدقاءهم.. هل كل هذه المعاناة التي يعيشها الآلاف من شعب غزة الآن كانت تساوى قرار حماس بهجومها على إسرائيل؟!.

وكانت إجابتى: «قد تكون الحسابات الرقمية صحيحة، ولكن القرار له جوانب أخرى»، وأكملت: دعنى أحْكِ لك قصة حقيقية.. عندما حدثت نكسة 67 في مصر، ظلت مصر تعيش ست سنوات في حرب الاستنزاف، التي أطلق عليها البعض مرحلة اللا حرب واللا سلم، وكانت المظاهرات في الجامعات المصرية تطالب الرئيس السادات بالحرب حتى تنتهى هذه الفترة من اللا سلم واللا حرب، وخلال هذه الفترة كان مستشار الرئيس السادات للأمن القومى، حافظ إسماعيل، موجودًا في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقابل وزير الخارجية الأمريكى، هنرى كيسنجر، هذا العملاق الذي أعتبره من أعظم مَن ظهر في العصر الحديث في مجال الدبلوماسية، حيث ظل لمدة 11 عامًا وزيرًا للخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وهو الذي أخرج أمريكا من مستنقع فيتنام، وأدار الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتى في هذه الفترة ببراعة، وهو الذي أحدث التقارب بين أمريكا والصين خلال فترة الستينيات، وهو وزير الخارجية الوحيد في العالم الذي نال جائزة نوبل للسلام، وبالنسبة لى، كان أول كتاب قرأته ولخصته، وأنا طالب في كلية كامبرلى الملكية في إنجلترا، وفى العشرينيات من عمرى، هو كتابه الشهير «كيف تبنى السياسة الخارجية الأمريكية؟».

وأعتقد أن هذا الكتاب وضعنى في بداية حياتى المهنية، وأنا أتعلم فنون الاستراتيجية والسياسة من كتاب هذا الثعلب السياسى العجوز، الذي تُوفى الأسبوع الماضى عن عمر يناهز مائة عام.

ونعود إلى مقابلة حافظ إسماعيل مع كسنجر في أمريكا، حيث دعاه إلى العشاء في نيويورك، بعيدًا عن اللقاءات الرسمية في أروقة وزارة الخارجية الأمريكية. ولقد بادر حافظ إسماعيل كيسنجر بسؤال: يا صديقى العزيز، وأنت أستاذ الدبلوماسية والسياسة في العالم، هل ستظل مصر في حالة اللا سلم واللا حرب؟.

وجاء الرد غريبًا وواقعيًّا من كيسنجر ليقول له: يا عزيزى، لو طلبنا الطعام الآن ونحن في المطعم، وجاء لك طبقك المفضل نيويورك ستيك الشهير الذي طلبته، وهو بارد وليس ساخنًا، فهل ستأكله؟، فأجاب حافظ إسماعيل: بالطبع لا، فقال له كيسنجر: يا عزيزى، الطبق لا نقترب منه إلا وهو ساخن، فمادامت الحالة عندكم على ضفاف القناة باردة، وليست هناك سخونة، اطمئن، فلن يقترب أحد من المشكلة، وستظل كما هي. لذلك أعتقد أنه يجب أن تشتعل المنطقة لكن تسخن الوجبة على ضفاف قناة السويس حتى يقترب منها الجميع، ويتم تداولها لكى نجد لها الحلول.

وأعتقد أن حافظ إسماعيل تلقى نصيحة الدبلوماسى العجوز، وعاد يبلغ الرئيس السادات برأى كيسنجر، وبالفعل بدأت مصر في التخطيط للتنفيذ الفعلى لبدء الحرب، حتى إن السادات أرسل حافظ إسماعيل مرة أخرى لمقابلة كيسنجر بعدها بشهور لكى يبلغه أن السادات يطلب منه التدخل لدى إسرائيل للوصول إلى حل سلمى للمشكلة لأن مصر غير قادرة على القيام بحرب لأن السوفييت لم يوافقوا على دعم مصر بالأسلحة الهجومية، فقرر السادات طرد الخبراء الروس من مصر، والآن يطلب من كيسنجر التدخل للوصول إلى حل سلمى.

ولا شك أن كيسنجر ابتلع الطعم من السادات، واتصل بجولدا مائير في نفس الليلة، وأخبرها أن السادات لن يهاجم إسرائيل، وبالفعل كانت أكبر خدعة قدمها كيسنجر لصالح مصر.

ونعود إلى حرب غزة وإسرائيل، وأقول إنه طبقًا لمقولة هنرى كيسنجر إن الطبق يجب أن يكون ساخنًا لكى يتم تناوله، فإن هذه القضية استمرت 75 سنة حتى الآن، وظلت في حالة اللا سلم واللا حرب لمدة 30 عامًا، ولم يعد يفكر المجتمع الدولى في الوصول إلى حل لها، حتى إن ترامب وافق على نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس.

ووافقت أمريكا على قرار إسرائيل بضم الجولان إليها، ونادى ترامب بحل القضية من خلال دولة واحدة، وحاليًا يتم بناء المستوطنات في الضفة الغربية بمعدل مستوطنة كل أربعة شهور، وأعتقد أنه خلال السنوات القريبة القادمة سوف تتحول الضفة الغربية إلى قطاع إسرائيلى كامل، ليس للفلسطينيين فيه وجود.

لذلك جاءت معركة غزة الأخيرة، حيث قامت حماس بالهجوم على إسرائيل لكى يتحول الجميع الآن إلى التفكير بضرورة حل القضية الفلسطينية، أي أن القضية الفلسطينية تحولت إلى طبق ساخن على كل الموائد في كل بلاد العالم، وبدأت أحداث غزة والتحليلات المنتظرة للمشكلة تتصدر الأخبار العالمية في كل دول العالم، حتى إن المجتمع العالمى نسى تمامًا الحرب الروسية الأوكرانية، التي أثرت على دول العالم كله، خاصة في النواحى الاقتصادية.

لذلك أصبحت الأحداث المؤلمة للأطفال والسيدات، وهم تحت القصف الإسرائيلى في كل مدن غزة، ترعب كل شعوب العالم، وحتى الشعب الأمريكى، وشاهدنا المظاهرات تسير في كل دول العالم، تطالب برفع الظلم عن النساء والأطفال في غزة.

من هنا عاد طبق غزة الساخن ليكون في أذهان ومواقف جميع دول العالم وشعوبها، وأصبح الكل يتساءلون: كيف يمكن أن نصل إلى حل القضية الفلسطينية؟، لأن الطبق الساخن أصبح للجميع يدعو إلى الدخول والوصول إلى حل لهذه المشكلة.

ورغم أن تكلفة هذا الطبق الساخن كانت غالية جدًّا من عدد الشهداء والجرحى وتدمير المدن والبنية الأساسية، وكان ذلك واضحًا من خلال الزيارات المتكررة لكل رؤساء وقيادات دول العالم، فها هو الرئيس الأمريكى يزور إسرائيل، ووزير خارجيته يزور المنطقة ثلاث مرات في أقل من شهرين، وكذلك رئيس المخابرات العامة CIA، والعديد من رؤساء الدول والوزراء.

وبدأت تظهر في الأفق روايات مختلفة وتقول: ماذا بعد الحرب، وما التوقعات؟، وبدأ التفكير في ضرورة حل المشكلة من خلال الدولتين، ولذلك أعتقد أن الطبق الساخن الغزاوى صحيح كانت كلفته غالية، لكن أعتقد أن نتائجه سوف تكون عملية من أجل الوصول إلى حل نهائى للمشكلة الفلسطينية.



Email: sfarag.media@outlook.com