العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

وبعد انتهاء المعركة، بدأت فى ترتيب الأوضاع الدفاعية لقوتى على الأرض، وكان الجو بالغ البرودة.

ذكريات رمضانية
 

لواء د. سمير فرج

 23 مارس 2023


يهل علينا شهر رمضان المبارك،كل عام، حاملاً معه العديد من الذكريات، المرتبطة بالطفولة والشباب، وتلك المرتبطة بطقوس العائلات المصرية، والتى أصبحت جزءا من تراث الشعب المصرى، بما يجعل الكثير من الأشقاء العرب يتهافتون على قضاء، ولو بضعة أيام، من ذلك الشهر الفضيل، فى مصر لإضفاء مذاق خاص على أيامه المباركة.

ورغم كل تلك التفاصيل السعيدة، فإننى يغلبنى، فى بعض الوقت، استرجاع ذكريات أيام، وفترات، صعبة عشتها، حرمتنى من الاستمتاع بطقوسنا الرمضانية التى نعيشها فى مصر. ففى كل عام، أجدنى أتذكرنى وأنا ابن السابعة عشرة من عمرى، أتخرج فى الكلية الحربية، ليتم إرسالى، فورا، مع وحدتى المقاتلة، إلى اليمن، للاشتراك فى حربها، التى طالت لسنوات.

وأتذكر، بعد يومين من وصولنا إلى صنعاء، أن تم تكليفنا بمهمة فتح أحد الطرق، فى منطقة بيت السيد، والتى ما أن وصلنا إليها، حتى أمر قائد كتيبتنا، بتخصيص إحدى السرايا، بقيادة النقيب موريس عزيز غالى، لاعتلاء أحد الجبال الشاهقة، أما أنا فقد تم تكليفى، مع فصيلتى المدعمة بنحو 50 جنديا، بالتمركز فى منطقة التباب السوداء،التى لا تستلزم مساحتها سوى قوة فصيلة مشاة. ورغم كونى أحدث قائد فصيلة فى الكتيبة، إذ لم يكن قد مر على تخرجى أكثر من ثلاثة أشهر، ورغم كونى الأصغر سناً، فإن قائد الكتيبة قرر أن أنفذ تلك المهمة بجنودي.

ولما كنا فى شهر رمضان، حينها، فقد تناولنا وجبة إفطار سريعة، لأندفع مع قوتى، بعد آخر ضوء، لاحتلال التباب السوداء، على قمة الجبال الشاهقة، متبعاً أساليب القتال العسكرية؛ فبدأنا عملية الصعود، وعلى الجانب الآخر كان النقيب موريس عزيز غالى يندفع بقوته، وقوامهانحو 150 مقاتلا، من سرية المشاة، لاحتلال هدفه. ومع قرب بزوغ فجر اليوم التالى، كنت قد وصلت، مع جنودى، إلى القمة، وفجأة قامت العناصر اليمنية بالهجوم على قوتى، فى معركة استمرت ثلاث ساعات، تمكنا خلالها من صد الهجوم اليمنى، بعدما أفقدناهم اثنى عشر فردا، واستشهد من قوتى رقيب الفصيلة.

وبعد انتهاء المعركة، بدأت فى ترتيب الأوضاع الدفاعية لقوتى على الأرض، وكان الجو بالغ البرودة، فوق قمم تلك الجبال الشاهقة، وكانت شدة الرياح تزيد من الإحساس ببرودته، فكنا نتطلع، بسعادة بالغة، لسطوع الشمس، للاستمتاع بقدر من التدفئة، ونسترشد بغروبها، وحلول الظلام، لتناول الإفطار. أما وجبة السحور، فكانت، عادة ما تفوتنا، نتيجة التأهب والاستعداد الدائم لصد أى هجوم محتمل. ومع حلول الظلام، فوجئنا بأن الفصائل اليمنية المتمردة قد قامت بقطع الطريق علينا، فأصبحت قوات فصيلتى، ووحدة النقيب موريس عزيز غالى، محاصرين، وليس معنا إلا وجبة الإفطار، التى نسميها تعيين طوارئ، وهى عبارة عن قوالب من الفولية، الغنية بسعراتها الحرارية، لاكتساب الطاقة، بالإضافة إلى زمزمية المياه، التى بات من الضرورى الاقتصاد فى استخدامها، فى ظل عدم اليقين بطول أمد الحصار. وحتى أجهزة اللاسلكى، كان لابد ألا تنفد بطارياتها، وإلاانقطع الاتصال مع قيادتي.

مازلت أذكر تفاصيل إحساسى بتلك الليلة، وكأنها بالأمس القريب، فقد كانت من أقسى الليالى التى مررت بها فى حياتى، فرغم حداثة سنى، وعدم تراكم خبراتى، بعد، وجدت نفسى مسئولاً عن كل جنودى، أواجه معهم حصارا، فوق تلك الجبال الشاهقة، فى ظل محدودية الموارد. وفى الصباح، علمت من قيادتى بأنه من غير المنتظر أن يُفك الحصار قبل يومين، عند وصول إمدادات جديدة من صنعاء. وكان لزاما عليّ تدبير الطعام لجنودى، دونما إخلال بقواعد التأمين، فنظرت إلى الوادى، أسفل الجبل، ورأيت قرية يمنية، وبعد مراقبة دقيقة، امتدت لساعات، تأكدت أن أهلها قد هجروها نتيجة القتال، فأرسلت دورية للبحث عن الطعام. وبعد أربع ساعات، شاهدت جنودى يخرجون من القرية، يحملون أربعة جوالات، وعددا من جراكن المياه.

وصلت الدورية، إلى موقعنا،قبيل الإفطار، فى ظل ترقب باقى الجنود لما ستجود به تلك الجوالات، فإذا بها محملة بالزبيب، أو العنب المجفف، الذى يعد أحد أشهر محاصيل اليمن، وكانت تلك القرية تقوم على زراعته وتجفيفه، ولما هجرها أهلها، اضطروا لترك الكثير من المحصول خلفهم، نظراً لثقل وزنه. فحمل منه جنودى ما طاقوا حمله، وعادوا إلى قمة الجبل، لنمضى ثلاثة أيام، طوال مدة الحصار، معتمدين، جميعاً، فى إفطارنا وسحورنا على الزبيب، الذى نصحنى أحد جنودى، بنقعه فى الماء لمدة ثلاث ساعات، قبل تناوله، فوجدنا فى ذلك وجبة شهية، مازلت أحرص على تناولها حتى يومنا هذا. وهكذا أنقذنا الزبيب فى التغلب على الحصار، حتى تم فتح الطريق ووصول الإمدادات.

أمضيت فى اليمن ثلاث سنوات، انتقلت خلالها من معركة إلى أخرى، وفى كل عام، عندما يهل شهر رمضان، أجدنى مفتقداً لمفرداته فى الحياة الاجتماعية المصرية، سواء صلاة التراويح فى المساجد المصرية، أو ولائم الإفطار العائلى، أو التفاف جميع أفراد الأسرة حول شاشة تلفاز واحدة، لمتابعة مسلسل درامى، أو اثنين على الأكثر، مع عدد من برامج المنوعات الخفيفة، وعلى رأسها، بالطبع، فوازير رمضان.

ورغم تغير ملامح شهر رمضان، فى مصر، فى يومنا هذا، فإن قسوة تجربة قضائه فى حرب اليمن، تجعلك تردد، بملء الصدر، يجعلك عمار يا مصر.



Email: sfarag.media@outlook.com