العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

نستيقظ على صوت تكبيرات العيد تنطلق، من جميع مساجد مدينتنا، بورسعيد، إيذانا ببدء مراسمه ... فنسارع لارتداء ملابس العيد، ونتوجه مع والدي، رحمة الله عليه، إلى مسجد لطفى

الله أكبر كبيرا... اهجم للأمام!
 

لواء د. سمير فرج

 22 يونيو 2017


تقدم العمر، ومازلت ذكريات الطفولة تطوف بخاطري، مع قدوم العيد. أذكر تفاصيل اليوم السابق للعيد ... وهو ما درجنا على تسميته «الوقفة» تشبهاً بوقفة عرفات قبل عيد الأضحى ... أذكر كيف كنت، وأخواتي، نرتب ونجهز ملابسنا الجديدة، التى اشتريناها خصيصاً لهذه المناسبة السعيدة، القمصان والسراويل والأحذية وحتى الجوارب كلها جديدة ... وينتهى يوم الوقفة «بحمام العيد» فى المساء، قبل أن نأوى إلى الفراش، استعداداً لاستقبال العيد فى صباح اليوم التالي.

نستيقظ على صوت تكبيرات العيد تنطلق، من جميع مساجد مدينتنا، بورسعيد، إيذانا ببدء مراسمه ... فنسارع لارتداء ملابس العيد، ونتوجه مع والدي، رحمة الله عليه، إلى مسجد لطفى ... المظاهر متشابهة ... الجميع تعلو وجوههم الابتسامات، كل أب يحيطه أبناؤه فى ملابسهم الزاهية، نتبادل جميعاً التهانى قبل أن نجلس فى المسجد لنردد التكبيرات ... وينقسم المصلون إلى قسمين، يبدأ أحدهم بالتكبير، بينما يردد القسم الثانى وراءه، ثم يتبادلون الأدوار، حتى يحين موعد صلاة العيد.

نفرغ من الصلاة ونخرج من المسجد، فنجد الأهالي، وقد حمل كل منهم أطباق الكعك بالملبن، الذى تشتهر به مدينة بورسعيد، فنبقى نحو ساعة، أخرى، حول المسجد نتناول الكعك، ونتجاذب الأحاديث، وتعلو أصوات الضحكات قبل أن تتفرق الجموع، لنستكمل مراسم العيد، والتى كان منها زيارة المدافن ... إذ يتجمع الأعمام والأبناء، حاملين الورد وسعف النخيل، لإلقاء التحية على الجد والجدة، وعلى كل من تركنا من العائلة، ومشاركتهم فى فرحة العيد، وهى عادة مصرية، تربى عليها معظم أبناء جيلي، زرعت فى نفوسنا قيماً أصيلة.

وما إن ننتهى من تلك الزيارة، حتى ننطلق إلى منزل عمى الأكبر، وكان أول مهندس مصرى فى قناة السويس، فنقضى جزءاً من اليوم فى منزله، نحصل خلاله، أنا وباقى أطفال العائلة، على أكبر عيدية، ثم نستكمل باقى اليوم انتقالاً بين منازل الأهل، وكانوا ستة أعمام وعمتين، ترى فى كل منزل منها شكلاً مختلفاً من أشكال الضيافة والمأكولات.

وينتهى أول أيام العيد، وقد أحصى كل منا ما حصل عليه من عيديات، استعداداً لبدء احتفالات جديدة فى الصباح الباكر من يوم غد، الذى نبدأه بركوب الخيل، ثم دخول السينما، وأكل الحلوى والمثلجات، والذهاب إلى «حارة العيد» حيث الألعاب والمراجيح والأراجوز لقضاء بقية اليوم ... وهكذا كانت ذكريات الطفولة الجميلة ... التى لم أعد أرى، اليوم، من مظاهرها إلا القليل.

مرت مرحلة الطفولة، وصرت ضابطاً فى القوات المسلحة المصرية ... فاختلفت الأحداث، وما حملته معى من ذكرياتها. وجاءت نكسة 67، ومُنى الجيش المصرى بهزيمة كبيرة، ففقدنا أرض سيناء الغالية ... وبدأنا فى الاستعداد لتحرير هذا الجزء الغالى من تراب مصر، الذى يقتضى عبورنا لقناة السويس. فكانت التدريبات تتم فى مناطق الدلتا، على عبور مجرى نهر النيل. وصادفت التدريبات يوم وقفة العيد، ونحن على ضفاف أحد فروع نهر النيل، نجهز القوارب المطاطية لعبور النهر ... وندرب الجنود على استخدام سترات النجاة ... وكل منا يتعرف على موقعه على القارب، الرشاس فى مقدمته، والجنود على أجنابه، وأنا فى مؤخرة القارب ... ثم بدأنا فى تلطيخ وجوهنا بالطين، كنوع من أنواع التمويه ... كل ذلك فى يوم وقفة العيد ... وسرعان ما قارنت بين طقوس ليلة العيد فى الطفولة، وما أفعله اليوم وأنا ضابط مصري، أتدرب، ومعى جنودي، على تحرير أرض مصر.

ومع بزوغ أول ضوء من صباح اليوم التالي، اندفعنا بالقوارب نحو المياه، لنعبر إلى ضفة النهر المقابلة، باعتبارها الضفة الشرقية، لكى نقتحم خط بارليف. كنت أحمل فى جيبى راديو صغيرا، اشتريته من اليمن فى أثناء مشاركتى فى حربها فور تخرجى فى الكلية الحربية، حملته فى جيبى لأسمع تكبيرات يوم العيد ... فهى عشقى منذ الطفولة. اليوم تخليت عن كل ما اعتدت عليه وأنا صغير، فاستبدلت ملابس العيد الجديدة، بسترة النجاة... واستبدلت نزهات العيد، بالتدريب على قارب صغير ... وبدلاً من «حمام العيد» فقد لطخت وجهى بالطين ... لم يهمنى أى مما تخليت عنه، بل تخليت عنه وأنا فى قمة فخرى وعزى بواجبى المقدس لتحرير الوطن. ولكننى لم أتخل عن تكبيرات العيد... سمعت أول تكبيرة ... الله أكبر كبيراً... فى نفس اللحظة التى كنا نهاجم فيها «نموذج خط بارليف» المجهز للتدريبات على ضفة نهر النيل ... وأنا أنادى فى جنودى «أهجم للأمام»... لنقتحم خندق العدو، ونواصل التقدم. والراديو مازال فى جيبى أسمع منه تكبيرات العيد.

واصلنا التقدم، وأمرت جنودى بالرقود أرضاً، استعداداً لصد هجوم «القوات المعادية»... والتفت حولي، فرأيت الفريق محمد فوزي، وزير الحربية، آنذاك، يركب سيارته الروسية الصنع، وبجانبه أحد الخبراء الروس، يتفقد موقع التدريبات، وكيفية عبورنا للممر المائى ... ثم مر علينا ومعه قائد الكتيبة، وقال لنا إن عيدنا الحقيقى هو يوم تحرير الأرض ... أما الأعياد الحالية، فسنتدرب خلالها حتى نحقق النصر.

وغادر الفريق فوزي، الذى له الفضل فى إعداد الجيش المصرى لعملية العبور ... غادر الموقع وأنا مازلت راقداً على الأرض ... ومازالت تكبيرات العيد تنطلق من الراديو الصغير فى جيبى ... وأنا لا أفكر فى ملابس العيد، أو كعك العيد، أو العيدية من أعمامي، وكيف سأنفقها فى نزهات العيد ... لم يشغل تفكيرى سوى أرض سيناء ... ومتى سنحررها.



Email: sfarag.media@outlook.com