العودة إلى الفهرس الرئيسي
لتحميل الوثيقة في صورة PDF
من المقــال
كانت المحطة الأولى فى طفولتى التى قضيتها بمدينتى الحبيبة بورسعيد، حيث كنا نرتب ونجهز ملابس العيد الجديدة فى الليلة السابقة.
|
تكبيرات العيد
لواء د. سمير فرج
|
27 مارس 2025
|
ستظل تكبيرات العيد أهم، وأعذب الطقوس التى تشعرك ببهجة قدومه، ليس، فقط، لما تحييه من مشاعر روحانية، وإنما، كذلك، بما تستدعيه من ذكريات إنسانية. فبالنسبة لى ارتبطت تكبيرات الأعياد، بأربع محطات فى حياتى، ما زالت محفورة فى وجداني.
كانت المحطة الأولى فى طفولتى التى قضيتها بمدينتى الحبيبة بورسعيد، حيث كنا نرتب ونجهز ملابس العيد الجديدة فى الليلة السابقة، لنكون مستعدين للانطلاق مع والدى، رحمة الله عليه، فى الصباح لجامع لطفى، المجاور لمنزلنا، لنردد التكبيرات، حتى موعد الصلاة، وما إن نفرغ منها، كنا نخرج إلى ساحة الجامع، حيث نجد الأهالى يوزعون كئوس الشربات، مع قطع الكعك وهى عادة جميلة حافظ عليها أهل بورسعيد. بعدها، يتجه البعض إلى المقابر لزيارة من تركونا من الأهل والأحباب، قبل أن نجتمع مع الأعمام والأقارب.
أما المحطة الثانية فكانت تكبيرات العيد وأنا على قمة أحد جبال اليمن، مع جنودى المشاركين فى حرب اليمن، نردد ونستمع إلى تكبيرات العيد، القادمة من القاهرة، من خلال راديو صغير اشتريته هناك، ثم نصلى معاً. والحقيقة أننى لم أشعر فى أى من الأعياد التى مرت على هناك، بما كنت أشعر به من بهجة فى بورسعيد، فكنت أغمض عينى لأتذكر تكبيرات العيد هناك، بكل تفاصيلها الجميلة.
أما ثالثة المحطات فكانت لما تركت اليمن وعدت إلى مصر، للمشاركة فى حرب 67، التى مُنى فيها الجيش المصرى بهزيمة كبيرة، وفقدنا أرض سيناء الغالية، وبدأنا، على الفور، فى الاستعداد لتحرير هذا الجزء الغالى من تراب مصر، مما اقتضى التدريب على عبور قناة السويس، وهو ما تمت محاكاته على نهر النيل، فى مناطق الدلتا، وصادفت التدريبات يوم وقفة العيد، وكنا على ضفاف أحد فروع نهر النيل نجهز القوارب المطاطية لعبور النهر، وندرب الجنود على استخدام سترات النجاة. كان كل فرد يتعرف على موقعه على القارب، الرشاش فى مقدمته، الجنود على جانبيه، وأنا عند مؤخرة القارب، ثم بدأنا فى تلطيخ وجوهنا بالطين كنوع من أنواع التمويه، كل ذلك فى يوم وقفة العيد. وسرعان ما قارنت بين طقوس ليلة العيد فى طفولتى، وبين ما أفعله اليوم وأنا ضابط مصرى، أتدرب ومعى جنودى على تحرير أرض الوطن.
ومع بزوغ أول ضوء من صباح اليوم التالى، اندفعنا بالقوارب نحو المياه، لعبور ضفة النهر المقابلة، وكأنها الضفة الشرقية، لنقتحم خط بارليف، وأنا أحمل فى جيبى ذات الراديو الصغير، الذى اشتريته فى اليمن أثناء مشاركتى فى حربها فور تخرجى فى الكلية الحربية. حملته لأسمع تكبيرات العيد، التى أعشقها منذ الطفولة. واليوم، تخليت عن كل ما اعتدت عليه وأنا صغير؛ فاستبدلت ملابس العيد الجديدة بسترة النجاة، واستبدلت نزهات العيد بالتدريب على قارب صغير، وبدلاً من حمام العيد، لطخت وجهى بالطين. لم يهمنى أيٌّ مما تخليت عنه، بل تخليت عنه وأنا فى قمة فخرى وعِزِّى بواجبى المقدس لتحرير الوطن، ولكننى لم أتخلَّ عن تكبيرات العيد، وسمعت أول تكبيرة، «الله أكبر كبيراً»، فى نفس اللحظة التى كنا نهاجم فيها نموذج خط بارليف المجهز للتدريبات على ضفة النهر، وأنا أنادى فى جنودى، «اهجم للأمام!»، لنقتحم خندق العدو ونواصل التقدم.
وبينما النيل من حولى، والراديو لا يزال فى جيبى، أسمع فيه تكبيرات العيد، وآمر جنودى بالرقود أرضاً استعداداً لصد هجوم «القوات المعادية»، التفتُّ، فرأيت الفريق محمد فوزى، وزير الحربية آنذاك، يركب سيارته الروسية الصنع، وبجانبه أحد الخبراء الروس، لتفقد موقع التدريبات وكيفية عبورنا المانع المائى، ثم مر علينا، ومعه قائد الكتيبة، وسمع الفريق فوزى صوت تكبيرات العيد من الراديو، فقال لنا، «عيدنا الحقيقى هو يوم تحرير الأرض، عندما نصلى العيد فوق رمال سيناء، أما الأعياد الحالية، فسنتدرب خلالها حتى نحقق النصر». غادر الفريق فوزى، الذى كان له الفضل فى إعداد الجيش المصرى لعملية العبور، وغادر القادة الموقع، بينما كنت ما زلت راقداً على الأرض، وما زالت تكبيرات العيد تنطلق من الراديو الصغير فى جيبى، ولا يشغل تفكيرى سوى أرض سيناء، ومتى سنحررها
ودارت الأيام، وحانت المحطة الرابعة، عندما بدأنا الهجوم فى السادس من أكتوبر من عام 1973، الموافق العاشر من رمضان، وكنت حينها فى غرفة العمليات، مركز قيادة العمليات الهجومية. ولما حلَّ العيد، كنا مازلنا فى مركز القيادة، تحت الأرض، إلا أننا استخدمنا مكبرات الصوت فيه لإذاعة تكبيرات العيد، بينما اصطف القادة والضباط فى الممرات لترديد التكبيرات، ثم الصلاة فى إحدى غرف المركز، فى مشهد لم ينسه أحد ممن حضروه.
والحقيقة أن ذلك اليوم، وتلك التكبيرات، كانت الأجمل فى حياتى، فرغم أننا لم نرتدِ ملابس العيد الجديدة، ولم نأكل الحلوى والكعك بعد الصلاة، ولم نجتمع مع الأبناء والأهل والأحباب، إلا أن فرحتنا فى ذلك العيد، لم تضاهها أى فرحة من قبل. كان عيدنا الحقيقى هو وجود نصف مليون جندى مصرى يرفعون تلك التكبيرات فوق رمال سيناء العزيزة، ومنهم من أصر على أن تكون الصلاة فوق أطلال خط بارليف، فكان العيد عيدين؛ عيد الفطر المبارك، وعيد استعادة الأرض، ورفع العلم، مرة أخرى، على أراضى سيناء، وصدقت نبوءة الفريق أول محمد فوزى، حين قال إن صلاة العيد الحقيقية ستكون فوق رمال سيناء
Email: sfarag.media@outlook.com
|