العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

فبينما يسهم ساحل أنطاليا بما يقرب من 20 مليار دولار سنوياً فى دخل تركيا القومى، تجد ساحلنا الشمالى يستنزف موارد المصريين.

وتحققت مطالب مقالاتى فى الأهرام
 

لواء د. سمير فرج

 29 فبراير 2024


لمدة ست سنوات، وفى هذا المكان نفسه، كتبت أكثر من مقال، فى كل صيف، عن إهدار الساحل الشمالى المصرى، بدءا من مقالى الأول يوم الخميس، 7 سبتمبر من عام 2017، بعنوان إمبراطورية الساحل الشمالى خسرتنا المليارات، وتوالت بعدها المقالات، فى كل عام، حتى مقالى الأخير، يوم الخميس 17 أغسطس 2023، بعنوان حوار خليجى على الساحل الشمالي. حتى جاء الإعلان عن الصفقة الاستثمارية التاريخية، بين مصر والتحالف الإماراتى، لتنمية منطقة رأس الحكمة، ليفتح الباب لعهد جديد من الاستثمار، فى منطقة الساحل الشمالى، بفكر جديد، لو تبنيناه منذ عقود مضت، لكنا اليوم فى موضع آخر.

ترجع القصة إلى ثلاث سنوات، قضيتها فى العاصمة التركية، أنقرة، ملحقا عسكريا لمصر إليها، وكنت أستغل عطلات نهاية الأسبوع، آنذاك، لأنطلق بسيارتى على طريق رائع، يشبه الطريق الصحراوى بين القاهرة والإسكندرية، فى صورته الحالية، بطول 350 كيلو متراً، من أنقرة إلى الساحل التركى،حتى أنطاليا. وهناك يمتد الشريط الساحلى لنحو 300 كيلو متر بداية من أنطاليا فى غرب تركيا حتى الساحل الشمالى فى إسطنبول، تتوسطه بعض المدن السياحية مثل بودروم، التى استلهمت ألوانها، لاحقاً،فى الأقصر عندما كنت محافظاً لها، ومثل مارماريز، التى هى النسخة، طبق الأصل، من شرم الشيخ.

ومثلما نطلق على سواحلنا المصرية على البحر المتوسط اسم الساحل الشمالى، فإن الأتراك يطلقون على سواحلهم، المقابلة لنا، اسم ساحل أنطاليا، نسبة إلى المدينة التى تبدأ عندها المنطقة الساحلية. إلا أنه ثمة فرق جوهرى بين ساحلنا الشمالى، وساحلهم التركى، إذ يستقبلون إليه ما لا يقل عن 18 مليون سائح سنوياً، بينما نتبارى نحن فى صف قرى أسمنتية، واحدة تلو الأخرى، لاستقبال العائلات المصرية لمدد لا تتجاوز أربعة أسابيع، فى المتوسط، من كل عام، ونترك تلك الكتل الخرسانية معطلة باقى شهور العام، ومغلقة «بالضبة والمفتاح»!

فبينما يسهم ساحل أنطاليا بما يقرب من 20 مليار دولار سنوياً فى دخل تركيا القومى، تجد ساحلنا الشمالى يستنزف موارد المصريين، محدثاً فقاعة فى أسعار الوحدات السكنية ومواد البناء، دونما أدنى مساهمة فى الدخل القومى. وأقسم بالله، قسماً أنا مسئول عنه أمام سبحانه، أن السائحين الوافدين، بتلك الأعداد،إلى ساحل أنطاليا، لا تجد منهم من يبتل جسده بمياهه، مكتفين باستخدام حمامات السباحة، نظراً لأن الشواطئ صخرية، ومياه البحر داكنة، تكاد تكون سوداء، بالرغم من أنها سواحل ذات البحر الأبيض المتوسط، التى أنعم الله علينا فيها بساحل شمالى مصرى، تبهر عينيك نعومة رماله الناصعة، وتخلب عقلك زرقة مياهه الصافية، التى لم تتلوث بمياه الصرف الصحى.

أتعلم، عزيزى القارئ، لماذا يتخذ السائح، خاصة الأوروبى، من ساحل أنطاليا وجهة له، وليس الساحل الشمالي؟ الإجابة ببساطة أن ساحل أنطاليا خُطط وصُمم، من البداية، ليكون وجهة سياحية عالمية، فاتحدت الجهود لتنفيذ تلك الرؤية عن طريق تشييد عدد من القرى السياحية، المُجهزة بالفنادق والوحدات المُعدة للإيجار، وتم ربط تلك القرى بطريق حر، مثل ذلك الذى تم تنفيذه فى مصر، مؤخراً. ولم تكتف الحكومة التركية بذلك، بل وفرت للسائحين الفرصة للاستمتاع بإجازاتهم السنوية من ناحية، ومن ناحية أخرى ضمنت عائداً أكبر من هذه السياحة الوافدة إليها، عن طريق الرواج الاقتصادى، فأنشأت مناطق تجارية بين القرى السياحية، أغلبها فى الظهير الجبلى، بها العديد من المحال لبيع الفضة، والسجاد، والألماس، وملابس التراث التركى، ثم محال الطعام، كل ذلك بتصميم يوفر للسائح تجربة متكاملة، قد يقضى فيها يوماً أو أياما كاملة. فمثلاً يدخل مبنى الفضة، فيشهد فى الدور الأرضى ورش تصنيع الحلى، بمختلف أنواعه، وفى الأدوار الأعلى يجد صالات عرض المنتجات الفضية الجاهزة للبيع، والكتالوجات الخاصة بالمحال لاختيار أى تصميم منها، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل قد يطلب السائح تصميماً خاصاً به، فيتم تصنيعه له، وإرساله إلى محل إقامته، سواء فى أثناء إجازته فى تركيا، أو حتى بعدها فى موطنه.

ونفس الشىء بالنسبة للملابس التركية، والسجاد التركى الأشهر فى العالم، مثل السجاد الهيركا، أو حتى فى الألماس، الذى يسيطر على صناعته وتجارته الأرمن. ولضمان استمتاع السائح، يتخلل تلك المبانى محال الأطعمة التركية الشهيرة مثل الدونير، والمسقعة والضُلمة، ليقضى يومه براحة وانسيابية. يضاف إلى الرؤية الشاملة، خصائص الشعب التركى المعروف بالانضباط، والنظافة، والإخلاص، والتفانى فى العمل، بل والإبداع فيه، فتجدهم يتقنون لغات الدول التى يفد منها السياح إليهم، خاصة الدول الإسكندنافية، مما عزز من وجود ساحل أنطاليا على خريطة السياحة العالمية.

وكنت أعود إلى مصر، وأنظر حولى فأجد أجمل سواحل فى الدنيا، وأصفى مياه، تتخللها خلجان هادئة لا تعلوها موجة واحدة، ويحيطها مطارات جاهزة للتطوير، لاستقبال أكثر من 10 ملايين سائح سنوياً، سواء مطار برج العرب، أو العلمين، أو مطار مطروح، وحتى مطار سيدى برانى، فأتساءل وقد أصابتنى حالة من الضيق، لماذا لا أرى سائحا واحدا حولى، ولا حتى فى القرى المجاورة، بالرغم من تميز سواحلنا مقارنة بتركيا، وتفوقنا فى جودة الصناعات اليدوية المتنوعة.

وأخيرا اتجهت البوصلة إلى أهمية الساحل الشمالى المصرى، وما يمكن أن يحققه لمصر على الصعيدين الاقتصادى والسياحى، فكان الإعلان عن مشروع رأس الحكمة، الذى يعد مشروعاً متكاملاً لتنمية الساحل الشمالى من رأس الحكمة حتى هضبة السلوم، أجمل بقاع الدنيا على البحر المتوسط.



Email: sfarag.media@outlook.com