العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

أما المشكلة الثانية في الإدارة، في مصر، فهي القدرة على التخطيط، برؤية مستقبلية؛ وهو ما يميز بين مسؤول، وآخر، فمن يخطط بلا رؤية مستقبلية، غالباً، ما يظهر في خطته العديد من أوجه القصور، أما من يمتلك رؤية مستقبلية، فعادة ما تكتب لأعماله النجاح. وهو ما تعلمته من دراستي لإدارة الأعمال، بالولايات المتحدة الأمريكية.

ثقافة الإدارة.. وعلم الإدارة
 

لواء د. سمير فرج

 29 فبراير 2020


في مداخلة للسيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال افتتاح عدد من مشروعات الإنتاج الحيواني، في مدينة الفيوم، قال سياته جملة، كاشفة، وضع بها يده على أكبر مشكلات مصر، عندما قال “إن المشكلة التي تواجه القطاع العام، في مصر، ليست في التنفيذ، ولكن في ثقافة الإدارة التي تشكلت عبر سنوات طويلة”، والتي عقب بها سيادته على الكارثة التي أعلنها السيد وزير الزراعة، الجديد، عن امتلاك الدولة لعدد 51 مزرعة إنتاج حيواني، متوقفة عن العمل، وبحاجة للتطوير. لا أبالغ في وصف ما أعلنه السيد وزير الزراعة بالكارثة، فإضافة إلى تعطيل طاقة إنتاجية بهذا الحجم، فإن تلك المزارع بها، بالفعل، معدات، وأدوات، وموظفين وعمال، يتقاضون مرتبات شهرية، بل وأخشى التفكير في تقاضيهم لحوافز. وكان رد السيد الرئيس “الدولة ممكن تضخ التمويل اللازم لإعادة تشغيلها … ولكن من يضمن عدم توقفها، مرة أخرى، في ظل تردي مستوى الإدارة في مصر”.

والحقيقة أن مشكلة الإدارة في مصر تتلخص في بعض النقاط؛ أولها، مركزية الإدارة، فالقرار، دائماً، في يد السلطة العليا، حتى وإن كانت في محافظة مختلفة، مما يحرم المرؤوسين، ودرجات الإدارة المتوسطة، من ممارسة اتخاذ القرار، ويركن، طوال مدة خدمته، للقرارات الفوقية، حتى في أبسط الأمور، مما يشكك في قدرته على اتخاذ القرار السليم، عند توليه منصب أعلى. وهذه الفلسفة عكس ما يظن، البعض، أنه سائد في صفوف القوات المسلحة، فالضابط، فور تخرجه من الكلية الحربية، وهو برتبة ملازم، يكون مسؤول عن اتخاذ القرار، فصحيح أن قائده الأعلى يصدق على قراره، ولكنه يتعود، منذ بداية عمله، على عملية اتخاذ القرار.

أما المشكلة الثانية في الإدارة، في مصر، فهي القدرة على التخطيط، برؤية مستقبلية؛ وهو ما يميز بين مسؤول، وآخر، فمن يخطط بلا رؤية مستقبلية، غالباً، ما يظهر في خطته العديد من أوجه القصور، أما من يمتلك رؤية مستقبلية، فعادة ما تكتب لأعماله النجاح. وهو ما تعلمته من دراستي لإدارة الأعمال، بالولايات المتحدة الأمريكية، من أن الخطط ،على مستوى الدولة، والوزارات، والهيئات، يجب أن يغطي مدة زمنية، لا تقل عن عشرون عاماً، ويتم تنفيذها على مراحل … وحينها استشهدت بتجربة مصر، القائمة على خطط خمسية، فعلمت أن تلك النوعية، من الخطط، تصلح لموضوعات محددة، مثل تطوير صناعة السيارات، أو تطوير صناعة الغزل والنسيج، أما الخطط على المستويات الأكبر، فتوضع لمدة زمنية أطول، لتنفيذها على مراحل، مع ضرورة اتسامها بالمرونة، وقابلية التعديل، لمواجهة المتغيرات السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، التي قد تحدث في المنطقة.

يلي وضع الخطط مرحلة، مهمة جداً، وهي المتابعة، التي تعد أدق مراحل علم الإدارة، وعليها يعتمد نجاح الخطة، الرئيسية، فهناك العديد من القادة ممن يملكون القدرة على حسن التخطيط، لكن يعوق نجاح خططهم، قصور المتابعة، خاصة المتابعة الميدانية، على أرض الواقع، التي تكشف العوائق، الحقيقية، الكثيرة، لسلامة التنفيذ. ومن ثم يجب أن يشمل التنفيذ، خطة، محكمة، للمتابعة، سواء، يومية، أو أسبوعية، أو شهرية، أو سنوية، وفقاً لطبيعة المشروع. ومن معضلات الإدارة المصرية، مع الأسف، هو نظرية خطط المتابعة، الموضوعة على الورق، فقط، دون تنفيذ، عملي، على الطبيعة، بما يحول دون التعرف على المشكلة، وحجمها، وأبعادها، وآثارها الممتدة لجوانب أخرى، وبالتالي القدرة عل حلها. وفي منظومة الإدارة، في القوات المسلحة، تعرف تلك المرحلة باسم “المتابعة وتذليل الصعاب”، وهو المقصد، تماماً، من المتابعة، بالوقوف على تنفيذ الخطة، طبقاً للمعدل الزمني المحدد لها، وتذليل أي صعاب، أو مشاكل، من شأنها التأثير سلباً على جودة التنفيذ.

يصاحب مراحل الإدارة، مرحلة لا تقل أهمية عن سابقيها، وهي “البحث والتطوير”، أو “Research and Development” (R&D)، المعمول بها في كل الشركات، والمصانع، العالمية المتطورة، والتي تهتم ببحث وتطوير منتجها، وفقاً لمتغيرات السوق، والتقدم التكنولوجي، ومؤثرات العرض والطلب عليه، بما يتيح لها توفير منتج منافس، ومتطور، خاصة لو كان منتجها، أو مشروعها يتم استكماله على مراحل، لذلك تعتبر هذه المرحلة هامة، جداً، لتطوير الأمم، وإلا تتجمد مخرجاتها عند نفس المستويات التي بدأت منها، دونما مرونة، أو مراعاة لآليات السوق.

يلي تمام تنفيذ الخطة، مرحلة الدروس المستفادة، وفيها يتم التعرف على نقاط الضعف، والقوة، للبناء عليها، في الخطط المستقبلية، بمعالجة نقاط الضعف، وتطوير نقاط القوة، والتي تحفظ في تقارير، تتاح لمتخذي القرار، للاستفادة منها، عند وضع، وتطبيق، خطط مستقبلية، مشابهة. يساء، في بعض الأحيان، فهم المغزى من تلك التقارير، خاصة إن كانت للإشادة بنجاح مشروع ما، فيظنها، البعض، مهرجاناً “للتلميع”، إلا أنها، في الواقع، عنصر هام للتأكيد على نجاح الخطة، باكتمال تنفيذها، والاستفادة من مراحلها. إضافة إلى أن تقرير النجاح يهدف إلى إبراز مواضع النقص، ومطالب استكماله، لأن البعض يظن أن إنجاز المشروع، وصرف كل المستحقات، يعني النجاح، وهو المعنى، الذي يجانبه الصواب.

ومن هنا ننادي دائماً بضرورة توفير علم الإدارة، لجميع ممارسيه، على كافة المستويات، في كل مؤسسات الدولة، عن طريق وضع خطط للتدريب الإداري، المنضبط، المرتبط بمقاييس علمية، ووضع أطر المحاسبة عليه، بغرض تدريب القيادات، على كافة المستويات، على كل المراحل السابق ذكرها، وهو ما ينقصنا، في الحقيقة، في مصر، ونفتقده بشدة، لتطوير، أو بمعنى أدق، تغيير ثقافة الإدارة، السائدة في مصر، واستبدالها، بالقواعد العلمية، لذلك العلم المحوري، الذي يعد مطالباً ضرورياً، في المرحلة القادمة، المقرر أن تشهد انطلاقة كبيرة في تنفيذ مشروعات البنية الأساسية.



Email: sfarag.media@outlook.com