العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

وفى الموعد المحدد، وصل مندوب الاتحاد الأوروبي، المشرف على عملية النقل، يصاحبه مندوب الفاتيكان، وبدأت إجراءات نقل الجثامين، التى استغرقت أسبوعاً كاملاً.

حديقة الكومنولث
 

لواء د. سمير فرج

 28 فبراير 2019


فور خروجك من مطار الأقصر، متجهاً إلى قلب المدينة التاريخية، وتحديداً بعد مرورك من أمام طريق الكباش، ستصطدم بمقابر جنود الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، المعروفة لدى أهالى الأقصر بمقابر الكومنولث، والتى اختارها الحلفاء، كما يشاع، خلال الحرب العالمية الثانية، لدفن ضحاياهم، بعد نقلهم من إفريقيا، بواسطة الطائرات البرمائية، التى كانت تهبط فى نيل الأقصر. يتكون المكان من 60 مقبرة، يحيطها سور متواضع، فى الشكل والتصميم، وغرفتين للخفراء، وتشرف عليه سفارة الاتحاد الأوروبى فى القاهرة.

كان المنظر سيئاً للغاية، ولا يليق بمدخل المدينة التى تحوى ثلثى آثار العالم، فقررت إنشاء جدارية كبيرة أمام سور المقابر، فى محاولة لتحسين المنظر، خاصة فى أعين السائح، إلا أنني، فى الحقيقة، لم أكن راضياً عن الموقف برمته، كمصرى أولاً، وكمسئول عن تلك المدينة العريقة ثانياً، فاتخذت قرارى بنقل هذه المقابر، وأنا أعلم، مسبقاً، بصعوبة تنفيذه، لما سيتطلبه من إقناع حكومات 6 دول أوروبية، تحاول كل منها الحفاظ على رفات جنودها.

بدأت تنفيذ قراري، بنقل هذه المقابر من مدخل مدينة الأقصر، على محورين متوازيين؛ أولهما إعداد تقرير شامل عن التجارب السابقة، لتلك الدول الأوروبية، فى نقل المقابر، فى أثناء عمليات إعادة التخطيط العمرانى للبلدة، أو المدينة. وثانيهما، إنشاء منطقة مقابر جديدة، فى الصحراء، مكونة من ثلاثة قطاعات، واحدة للمسلمين، وأخرى للأقباط، والثالثة لنقل رفات جنود الكومنولث، تتكون من 80 مقبرة، استعداداً لاحتمال وجود أكثر من جثمان فى مقبرة واحدة، من المقابر الحالية. تم تخطيط منطقة المقابر الجديدة، بأسلوب راق، وإمدادها بالمرافق العامة، وتمهيد الطريق إليها، وتزويدها بمكتب للإدارة، وغرف مناسبة للحراسة.

ما إن أنهيت تلك المرحلة، حتى بدأت فى تنفيذ الجزء الثانى من الخطة، بمخاطبة سفارة الاتحاد الأوروبي، فى القاهرة، برغبة محافظة الأقصر فى نقل مقابر الكومنولث إلى منطقة جديدة، وهو ما أحدث ثورة فى السفارة، وسارع السيد السفير بالرد باستحالة التنفيذ، وأعقبه بشكوى للخارجية المصرية، بمخالفة ذلك للأعراف والقوانين الدولية. وهنا خاطبت سيادته بعزمى على تنفيذ قرارى فى غضون شهر، من تاريخه، مرفقاً به تقريرى عن التجارب السابقة لدولهم الأوروبية، فى نقل المقابر، وتقرير آخر مصور، عن المقابر القديمة، وما تمثله من تشويه لمدخل المدينة، وأسباب ضرورة نقلها إلى منطقة المقابر الجديدة، التى تم تأسيسها، والتى خرجت فى صورة، تجبر متخذ القرار على الموافقة.. وأمام إصرارى على التنفيذ، لما فيه من حق لمصر، وبما لا يخالف القوانين الدولية، طلب سفير الاتحاد الأوروبى زيارة الأقصر، وتفقدنا، معا، منطقة المقابر القديمة، ثم توجهنا إلى منطقة المقابر الجديدة، وشاهد بنفسه التجهيزات الممتازة، التى تم الانتهاء منها، تمهيداً للتنفيذ، فطلب مد المهلة المقررة، لاستطلاع رأى الدول أصحاب الجثامين، ولإبلاغ أهالى الضحايا، وعائلاتهم. تمت الموافقة، بالطبع، على زيادة المهلة لشهرين، بعدما أبلغت رئيس الأساقفة الكاثوليك، فى الأقصر، بالاستعداد لإجراء المراسم، والطقوس الدينية، فى أثناء عملية نقل الجثامين، والذى يتطلب الأذن من الفاتيكان.

خلال هذه المدة، تبادلنا العشرات من الخطابات للرد على استفسارات الدول الأوروبية الست، ووردت موافقة الفاتيكان على إجراء المراسم الدينية، وفقاً لأحكام المسيحية، بل وزادنا الفاتيكان مفاجأة، بقراره إيفاد مندوب للإشراف على تنفيذ المراسم، والمشاركة فيها. وتوالت موافقات الدول، بعدها، واحدة تلو الأخرى، إلا دولة واحدة، لم تصلنا موافقتها حتى أسبوع من انقضاء المهلة، فأبلغت السيد سفير الاتحاد الأوروبي، بأننى سأنفذ النقل فى موعده، أياً كانت الظروف.

وفى الموعد المحدد، وصل مندوب الاتحاد الأوروبي، المشرف على عملية النقل، يصاحبه مندوب الفاتيكان، وبدأت إجراءات نقل الجثامين، التى استغرقت أسبوعاً كاملاً، كان يتم فيه فتح كل مقبرة، والتأكد من صاحبها، طبقاً للسجلات الموجودة، قبل نقل الرفات فى أكياس خاصة بهذه العملية، يتم بعدها إجراء الطقوس الدينية، بمعرفة مندوب الفاتيكان، والكنيسة الكاثوليكية، بالأقصر. وفى اليوم الأخير لإتمام تلك العملية، تم الاحتفال بنجاحها، فى خيمة كبيرة بمنطقة المقابر الجديدة، وقامت بتغطيته وسائل الإعلام الأوروبية، والمصرية، وفيه تحدث الجميع، بل وأشادوا بسلاسة تنفيذ تلك العملية المهمة، واكتسبت الأقصر دعاية إعلامية، فى مختلف وسائل الإعلام الغربية، التى أقرت بأن هذا النقل لصالح أكبر مدينة أثرية فى العالم.

ومع نجاح هذه العملية، فإننا نخرج ببعض الدروس المستفادة، أولها أن التخطيط الشامل هو أولى خطوات النجاح، يليه الإصرار على التنفيذ، مع ضرورة التنفيذ بصورة كاملة والسليم، لإقناع الأطراف الأخرى بقبول التغيير، أما رابعاً، فهو أسلوب العرض، المصحوب بالتقارير المصورة، والأدلة، والتجارب السابقة، بما لا يدع مجالا للرفض. وبعد النقل تم إعادة تخطيط المنطقة القديمة، لتصبح حديقة رائعة، والآن عزيزى القارئ، عندما تصل لمدينة الأقصر الجميلة، وتعبر طريق الكباش، أطول وأقدم طريق جنائزى عرفه التاريخ، تستقبلك حديقة رائعة، بها أجمل النباتات، ومزودة بأحدث أساليب الإضاءة، يعلوها يافطة كبيرة، مكتوب عليها بالعربية، والإنجليزية، مرحباً بك فى الأقصر... ولقد بذلت جهداً كبيراً فى الأيام الأولى لافتتاح هذه الحديقة، لإقناع الأهالى بأنها ليست حديقة عامة، وإنما قطعة فنية لاستقبال ضيوفهم، بصورة تليق بعظمة، وعراقة مدينتهم، خاصة أننى ممن يؤمنون بصدق مقولة: الانطباع الأول هو الانطباع الأخير.

وأخيراً اقتنع أهالى الأقصر بأهمية هذه الحديقة الجديدة، وشعروا بضرورة الحفاظ عليها، فكان منهم من يبلغني، فى الصباح، فى أثناء مرورى اليومى لتفقد أحوال المدينة، يا فندم فيه لمبات محروقة فى حديقة الكومنولث... وهكذا أصبح اسمها حديقة الكومنولث.



Email: sfarag.media@outlook.com