أم كلثوم فى قصر العروبة

فى طريقك من العباسية، متجهاً لمطار القاهرة، تحديداً بعد عبور نفق العروبة، ببضعة أمتار، سترى على يمينك، قصراً كبيراً، المعروف باسم قصر العروبة، وهو قصر باغوص باشا، نجل نوبار باشا، أول رئيس وزراء لمصر من أصل أرمنى. وباغوص باشا هذا هو واحد، من ثلاثة شركاء، اجتمعوا على تأسيس شركة للإنشاء والتعمير، كان معه فيها الأمير حسين كامل، الذى صار سلطاناً على مصر، فيما بعد، والبارون إمبان، الذى اختار الصحراء ما بين القاهرة والسويس، فاشترى من الحكومة مساحات شاسعة منها، وشيد لنفسه عليها قصر البارون إمبان الشهير، وخصص باقى المساحة لتأسيس حى هليوبوليس، أو مصر الجديدة حالياً، فبنى باغوص باشا قصره، بالقرب منه، ليصبح القصران نواة حى مصر الجديدة.

مرت السنوات والعقود، وآلت ملكية قصر العروبة للدولة، وتم تخصيصه لإدارة الشئون المعنوية، بالقوات المسلحة المصرية، وفى يومى الأول هناك، انبهرت بهذا القصر، كتحفة معمارية رائعة، إلا أن حاله من الداخل أساءنى كثيراً؛ فقد نالت منه عوامل الزمن، وسوء الاستخدام فى فترات سابقة، فعزمت على ترميمه وتجديده، بالتعاون مع الجهات المعنية، وكان أول قراراتى هو بناء مبنى ملحق به، محل اسطبل الخيول، الموجود خلفه. وأشكر اللواء المهندس/ حسين شفيق، الذى صمم المبنى الملحق، ليتوافق مع طراز القصر، وشكله الخارجي.

صمم باغوص باشا غرف القصر، ليكون لكل منها نمط مختلف، فكانت المكتبة كلها من أخشاب أشجار البلوط، الوارد من افريقيا، لها دور مسحور، وسلم داخلي، فى نفس الغرفة، لاستخدامه فى الوصول للكتب بالأرفف العلوية، فكانت المكتبة قطعة فنية من الخشب المنحوت، لا مثيل لها فى مصر. وفى البهو نجفة من العصر الإسلامي، لا تجد لها مثيلاً سوى فى المتحف الإسلامي، بالقاهرة، أما الصالون الكبير، فكان على الطراز الفرنسي، المستوحى من عصر الملك لويس السادس عشر، سواء على الحوائط أو الأسقف، وملحقة به صالة الطعام، مصممة على طراز عصر الباروك الأوروبي. أما المكتب الرئيسي، فكان على الطراز الإيطالي، وزُينت جدرانه وأسقفه برسومات عصر النهضة الإيطالية. يميز جميع غرفه، فى كل الطوابق، مساحاتها الشاسعة، وأسقفها المرتفعة، التى تزيدها فخامة وعراقة.

وفور الانتهاء من بناء الملحق الخلفي، نقلت جميع عناصر الشئون المعنوية إليه، وأخليت القصر تماماً، إلا من مكتبى فقط، واتصلت بالوزير الفنان فاروق حسني، وزير الثقافة، آنذاك، لمعاونتى فى أعمال الترميم. وتم استقدام طاقم من إيطاليا، متخصصين فى ترميم هذا النوع من القصور، وباستخدام اشعة الليزر، وأحدث الأساليب التكنولوجية، تمكنوا من الوصول إلى الألوان الأصلية التى طًليت بها الجدران فى الماضي، وفى غضون ثلاثة أشهر، تمت إعادة القصر إلى صورته الأصلية، التى كان عليها منذ أكثر من مائة عام، مع المحافظة على الأرضيات الرخامية الموجودة به، بعد ترميمها، وإعادتها لأصلها. فعادت للقصر روحه، حتى تظن أنه متحف، شاهد على هذا الزمن من تاريخ مصر.

وفى أحد الأيام، اتصلت بى المخرجة القديرة، الرائعة، أنعام محمد علي، لتبلغنى بأنها بصدد تصوير مسلسل، عن حياة كوكب الشرق، أم كلثوم، وهو ما يتخلله بضعة مشاهد بمكتب وزير الحربية، فى زمن السيدة أم كلثوم، مفصحة عن رغبتها فى تصوير تلك المشاهد فى مكتبي، لما سمعته عن روعته. فرحبت بالفكرة، بعدما استفسرت عن منتج العمل الفني، وتأكدت أنه التليفزيون المصري، وليس القطاع الخاص. وتطلب تصوير مشاهد مكتب وزير الحربية، ثلاثة أيام، فتم الاتفاق عليها بعد مواعيد العمل الرسمية، إلا أن المخرجة الكبيرة، بعدما تجولت فى أروقة القصر، اكتشفت أنه يناسب لتصوير أكثر من نصف مشاهد المسلسل، فلن تجد أروع من المكتبة الموجودة بالقصر، لتصوير لقطات أحمد رامى فى دار الكتب، ولن تجد أنسب من الغرف العلوية للقصر، لتصوير مشاهد الإذاعة المصرية، بعد إضافة بعض الديكورات البسيطة إليها، وغيرها الكثير من مشاهد ذلك العمل الرائع.

ومكثت سيارات التصوير الخارجي، للتليفزيون المصري، تحت مكتبي، لعدة شهور، لتصوير اللازم من مشاهد العمل الدرامي، والذى لم أكن أعلم قبله، ما تطلبه مثل تلك الأعمال الفنية من وقت وجهد، خاصة عندما تكون المبدعة أنعام محمد علي، قائمة عليه، والتى كنت ألمح فى نظراتها، أنها تريد وقتاً أطول، لأن التصوير المسائي، لا يكفيها لإنهاء المشاهد المطلوبة؛ فقد استغرقت أعمال التصوير الخارجى شهرين كاملين، ومازال أمامها الكثير من المشاهد الداخلية بالقصر. وأمام ما رأيته من تفانيها فى العمل، فقد نقلت مكتبى إلى المبنى الخلفي، لأتيح لها، ولفريق عملها، فرصة التصوير طوال اليوم، ولكننى تركت معهم مهندسين، لمراقبة تنفيذ التعليمات الخاصة بالوجود داخل القصر، وإدخال المعدات والديكورات، بما لا يعرض القصر لأى ضرر أو حتى خدش.

والحقيقة أننى لم أكن سعيداً، بشكر إدارة الشئون المعنوية، فى تتر النهاية للمسلسل، فى سطر، ضمن عدة سطور، لم يستغرق ظهورها أكثر من ثوان، إلا أن سعادتى الحقيقية كانت فى المساهمة فى مثل هذا العمل، الذى خرج فى صورة رائعة، ومشرفة، ليضاف إلى لوحة شرف تاريخ الفن المصري، ومخرجته القديرة أنعام محمد علي، وينال إعجاب الشعب المصري، وشعوب العالم العربي، عند عرضه، وحتى يومنا هذا.

وعودة لهذا القصر، فقد اكتشفنا، لاحقاً، أن أحد الأثرياء العرب كان قد قام بشرائه من ورثته، إلا أنه نظراً لمرور مائة عام على بنائه، فقد صار أثراً، تحكمه قوانين خاصة، فتواصلنا مع المالك الجديد، ونجحنا فى التفاوض معه لشراء القصر، مرة أخرى، وإعادته إلى حوزة الدولة، ليظل شاهداً على روعة البناء فى ذلك العصر من تاريخ مصر.