العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

أعتقد أن البرلمان الأوروبى وهو يجتمع فى الأسبوع الأول من شهر فبراير سيكون أمامه أعقد مشكلة، وهى إعطاء الاتحاد الأوروبى قبلة الحياة بعد أن بدأ يتهاوى بسبب التدخل السياسى.

عندما يختلف الاقتصاد مع السياسة
 

لواء د. سمير فرج

 14 يناير 2019


فى مفاهيم الاستراتيجية والأمن القومى تكون السياسة هى الأساس الذى تبنى عليه مفاهيم باقى قوى الدولة العسكرية والاقتصادية.. إلخ.

لذلك عندما تحدد أى دولة سياستها، تبدأ باقى قوى الدولة بعمل خطة تنفيذ أساليب هذه السياسة، لأن هناك دائما تحذيراً فى علوم الاستراتيجية والأمن القومى يقضى بأن السياسة لا تتدخل عند آلية التنفيذ، ولعل أبسط مثال على ذلك خلال الحرب الهندية الباكستانية الشرقية التى أطلق عليها بعد ذلك بنجلاديش حين قررت الهند شن عملية عسكرية ضد باكستان الشرقية بهدف إجبارها على تنفيذ مطالبها، حيث تم تكليف رئيس الأركان الهندى بإعداد خطة عسكرية لتدمير القوى العسكرية لباكستان الشرقية واحتلالها وإجبارها على الرضوخ للمطالب الهندية، على أن يتم تنفيذ المهمة خلال 11 يوما، وبالطبع، كانت هذه الحسابات طبقا لاحتمالات التدخلات السياسة الخارجية من القوى العظمى واجتماعات مجلس الأمن بما يعنى حساب قدرة الدولة الهندية على الصمود أمام القوى السياسية الخارجية، وبدأ الجيش الهندى الهجوم على باكستان الشرقية.. ولما كان اليوم الثامن من بدء الهجوم اجتمع البرلمان الهندى مطالبا بمساءلة رئيس الأركان عن سبب تأخر سقوط أى مدينة رئيسية فى باكستان الشرقية حتى الآن على الرغم من وصول القوات الهندية إلى ثلثى باكستان، وكان رد رئيس الأركان الهندى عندئذ أنه تسلم المهمة للانتهاء منها بعد 11 يوما، «ولقد انتهيت من الاستيلاء على ثلثى البلاد وإذا حاولت قواتى دخول أى مدينة فى هذا التوقيت فلن أستطيع تكملة المشوار طبقا للزمن المحدد، حيث إن لدينا قاعدة مهمة، مفادها أن المدن هى مقبرة الجيوش، لذلك يجب علينا الانتظار حتى نصل لخط الحدود وسوف تتهاوى هذه المدن»، وطلب منهم عدم التدخل بعد ذلك فى الشؤون العسكرية، حيث إن هذه القاعدة الأولى فى العمل العسكرى، وبالفعل جاء اليوم الحادى عشر ووصلت القوات الهندية إلى خط الحدود وتهاوت بعدها كل المدن الباكستانية بما فيها العاصمة وتم تحقيق النصر وانتصرت الهند وأصبحت باكستان الشرقية دولة جديدة سميت «بنجلاديش».

واليوم، لدينا مثال آخر فى الاقتصاد، حيث إنه عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية ظهرت فكرة قيام الاتحاد الأوروبى، بهدف إنعاش اقتصاد الدول الأوروبية التى دمرتها الحرب، وقد كان الهدف منذ البداية اقتصاديا، حيث بدأ بالدول الست الأولى إيطاليا، فرنسا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا، لوكسمبرج فى عام 1958 ثم أضيفت له أربع دول أخرى فى السبعينيات والثمانينيات.. كل ذلك تحت إطار الاتحاد الاقتصادى، على أن يُترك لكل دولة سياستها الخارجية تديرها حسب ظروفها الدولية والسياسية. وفى هذا الوقت كان الاتحاد الأوروبى مثلا رائعا لكل من يريد أن يكون قوة اقتصادية بين بعض الدول المتجانسة.. وفجأة.. حدث انهيار الاتحاد السوفيتى وخرجت معظم الدول الصغيرة من العباءة السوفيتية مثل التشيك والمجر وبلغاريا وليتوانيا وسلوفينيا وغيرها. وهنا جاء التدخل السياسى من دول أوروبا، حيث أرادت احتضان هذه الدويلات الصغيرة التى خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتى قبل أن تفكر فى العودة مرة أخرى تحت أى ظرف إلى الاتحاد السوفيتى. وهنا جاءت الغلطة الكبرى، لقد تدخلت السياسة فى الاقتصاد، وتم ضم كل هذه الدول إلى الاتحاد الأوروبى، ليصبح عدد دول الاتحاد الأوروبى 27 دولة، بعدها اندفع سكان هذه الدول التى عانت من سوء المعيشة والفقر تحت الحكم الشيوعى السابق لكى تهاجر إلى الدول الأوروبية وهم يحملون معهم ميزة رخص العمالة وقبول أى أوضاع معيشية بسيطة.. وجاءت المفاجأة فى الانتخابات البريطانية التى لم تكن فى الحسبان، حيث جاءت أصوات الشباب البريطانى للخروج من الاتحاد الأوروبى، وأصبحت تريزا ماى رئيسة الوزراء البريطانية فى مهب الريح، وهى تقاتل من أجل موافقة البرلمان البريطانى على البريكست للخروج الآمن لبريطانيا من السوق الأوروبية، واندلعت شرارة الغليان فى شوارع باريس من أصحاب السترات الصفراء وفى بروكسل، وأعتقد أن البرلمان الأوروبى وهو يجتمع فى الأسبوع الأول من شهر فبراير سيكون أمامه أعقد مشكلة، وهى إعطاء الاتحاد الأوروبى قبلة الحياة بعد أن بدأ يتهاوى بسبب التدخل السياسى.



Email: sfarag.media@outlook.com