العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

إلى أن ظهر مفهوم آخر، أطلق عليه “التحليل الاستخباراتي”، القائم على أساس تقديم تحليلات عديدة لمتخذ القرار.

المفهوم الجديد في التحليل الاستراتيجي
 

لواء د. سمير فرج

 31 أغسطس 2018


عندما يكون التطور هو سمة العصر، في كافة المجالات، فإن المجال العسكري يتصدر قائمة أهم المجالات التي تشهد، في كل وقت، فكراً جديداً وتطوراً جديداً، وكان أحد أهم هذه المجالات، هو مجال التقديرات العسكرية، والتحليل الاستراتيجي … ففي البداية كان هناك الفكر العسكري الشرقي، الذي تأسس على مبادئه حلف وارسو، الذي تزعمه الاتحاد السوفيتي، وتسلمت هذا الإرث حالياً روسيا … وبالتوازي مع الفكر العسكري الشرقي، فهناك الفكر العسكري الغربي، لدول حلف الناتو، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.

اعتمد التحليل، في العقيدة الشرقية، على أساس دراسة الموقف والأوضاع والإمكانات، ويخرج باستنتاج واحد، على أساسه يبنى القرار … أما في العقيدة الغربية، فإن التحليل يبنى على أساس تقديم عدة أطروحات، يقابلها بدائل للحلول المتاحة، موضحاً مميزات وعيوب كل حل، وفي النهاية يقدم التحليل توصية بأنسب الحلول الممكن اتباعها.

وظل هذا المفهوم، لفترة طويلة، معمول به، إلى أن ظهر مفهوم آخر، أطلق عليه “التحليل الاستخباراتي”، القائم على أساس تقديم تحليلات عديدة لمتخذ القرار، لا يلتزم فيه متخذ القرار برأي واحد محدد، وإنما يسمح لنفسه بالتجول بين بدائل عدة. وهو فكر متقدم، بالطبع، ابتدعته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “CIA”، وبدأت تعمل به كافة الأجهزة الاستخباراتية في العالم، وخاصة تلك المتعاونة مع وكالة الاستخبارات المركزية. وهذا التحليل يرضي جميع الأطراف، بنسبة كبيرة، إلا أنه يفتقر إلى التحليل الأكثر قبولاً، أو إلى رأي محدد يمكن للقائد العمل به، وهنا يصبح على القائد اتخاذ القرار الأنسب لتطبيقه.

وفي هذه الأيام، ومع تطور آليات تكنولوجيا العصر، أصبحت الحاسبات الآلية، من خلال برامج وتطبيقات متطورة، قادرة على جمع عدد هائل من المعلومات والبيانات والأرقام، وتطور الأمر إلى أن جميع البيانات تظهر في شكل مؤشرات بيانية، وعمل مقارنات حسابية، تشمل فترات زمنية مختلفة، وتخرج في النهاية بنتائج محددة، بما يوفر المزيد من الجهد، الذي كان يبذل في عمليه المقارنات سواء بين البيانات الحالية أو البيانات السابقة. ومن هنا قادت مراكز الدراسات الاستراتيجية، ومراكز البحوث، فكراً جديداً يعتمد على تقديم البيانات والأرقام والأحداث من خلال سرد تاريخي للأحداث، دون الوصول إلى نتائج محددة، ويترك فيها للقارئ أو المتلقي أن يخرج هو بالاستنتاج والتحليل الذي يراه مناسباً.

في البداية كان هناك تعجب، أو استفسار، أو انتقادات، تركز على أن الفكر الذي يخرج من دراسة كل هذه المعلومات والبيانات، يجب أن يقود متخذ القرار إلى نتيجة ثابتة ومحددة، ولكن شيئاً فشيئاً، بدأ البعض يقتنع بأهمية أن يستخرج الدارس، أو القارئ، أو صانع القرار، ما يناسبه من قرار، وفقاً للتحليلات الناتجة عن المعلومات الواردة إليه. وبدأت هذه الأفكار تنتشر في العديد من مراكز الدراسات الاستراتيجية، التي تقول إن القارئ لن يفرض عليه الرأي بعد اليوم، فأمامه المعلومات والبيانات ليدرس هو ويحلل. ولقد استهوت هذه الطريقة بعض الشباب في المجتمع الأوروبي، الذي يرفض وصاية مراكز الدراسات الاستراتيجية، أو فكر المحللين الاستراتيجيين، وكان أبسط مثال لذلك، هو كل التحليلات التي تمت، قبل استفتاء البريطانيين، حول الاستمرار في الاتحاد الأوروبي وسوقه المشتركة، حيث ظهرت كل التحليلات الصادرة عن مراكز الدراسات، في الصحف البريطانية، وقدمت البيانات والأرقام والإحصاءات للمجتمع البريطاني، خاصة للشباب، وتركت لهم حرية اتخاذ الرأي. وكانت الصدمة عند ظهور نتائج التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وبناءً عليه، أتوقع أن نرى، في الأيام القادمة، العديد من المقالات التي تحمل عنوان التحليلات الاستراتيجية، والتي تعرض الموضوعات بشكل متكامل، مصحوباً بالأرقام والبيانات، وحتى خلفياته التاريخية، دون أن تنتهي إلى رأي نهائي، تاركة للقارئ حرية استنباط تحليله الشخصي … وبهذا يكون التطور، في الاعتماد على القارئ أو الدارس في مجال التحليل، وليس المنشأة أو مراكز الدراسات الاستراتيجية. ورغم ذلك انقسمت مراكز الدراسات الاستراتيجية حول تطبيق هذا الفكر في بعض الموضوعات، على مستوى العالم، خاصة تلك المصبوغة بأبعاد سياسية واستراتيجية، وهو ما ظهر، مؤخراً، في معالجة المشكلة الأمريكية الإيرانية، حول انسحاب ترامب من الاتفاق النووي 6+1، حيث لجأ معظم المحللين والمفكرين، إلى عدم الوصول إلى تحليل نهاية الأحداث، وخاصة مع تصاعد الحرب الكلامية بين الطرفين، رغم العلم المسبق بتفوق القوه العسكرية الأمريكية، في حالة حدوث صدام مسلح لتأمين مضيق هرمز، ولكن ظلت أجهزة صنع القرار والأجهزة الاستخباراتية في العالم، تسير على المنهج القديم، وهو تقديم الرأي التحليلي في النهاية. وسوف تظل تحليلات الأجهزة الاستخباراتية على منهجها القديم في تقديم أكثر من رأي وأكثر من فكر تحليلي، وعلى مستوى مجموعات معاونة القادة على اتخاذ القرار التي يطلق عليها اسم Think Tanks، التي رفضت تماماً هذا التطور، وظلت مصرة على تقديم حلول واقتراحات محددة وواضحة المعالم، لمتخذ القرار.

وعموماً، فإن الأيام القادمة، ستثبت لنا هل كل ما هو جديد مرفوض أو يقبل بعد حين. فتلك هي طبيعة النفس البشرية، وحتى عندما حاول البعض تطوير عمل الحاسبات الإلكترونية للاستفادة منها في تقديم حلول مختلفة، ظل ذلك محصوراً في مجال المقارنة بين الأرقام والمعدلات، مثلما حدث في فكر بحوث العمليات الذي قدمه وزير الدفاع الأمريكي في الستينات، وظل العالم يعمل به حتى الآن، ولكن في المجال الاستراتيجي سيظل العامل البشري، مهما تطورت التكنولوجيا، هو أهم عناصر اتخاذ القرار وتحليله.



Email: sfarag.media@outlook.com