العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

يقول سيادة المشير، أن حلاوة مذاق تلك الوجبة لم يفارقه يوماً، منذ ذلك الحين، فقد كان أول طعام يدخل جوفهم منذ أربعة أيام. وعندما فرغوا من الطعام، طلبوا الحساب، فثار صاحب المحل ثورة عارمة، واعتبر ما طلبه الضباط، إهانة بالغة.

المشير طنطاوى.. وشعب بورسعيد
 

لواء د. سمير فرج

 26 يونيو 2018


أقلعت الطائرة من قاعدة ألماظة العسكرية، حاملة على متنها سيادة المشير محمد حسين طنطاوي، ومعه بعض قادة القوات المسلحة المصرية، فى طريقها إلى مطار الجميل ببورسعيد، لافتتاح أحدث النوادي، على شاطئ منطقة الجميل، فى بورسعيد. وما إن استقرت الطائرة فى الجو، وهدأت أصوات محركاتها، حتى بادرنى سيادة المشير بسؤاله، بورسعيد هتكون مبسوطة بالنادى الجديد اللى أنت عملته، يا سمير، خصوصاً أنها مسقط رأسك؟... فأجبته، بلا تردد، طبعاً يا أفندم ... النادى ده هيخدم المدنيين، من شعب بورسعيد، قبل العسكريين... فمازحنى ضاحكاً، أنا شفت الصور، وواضح منها إنك متوصى بأهلك جداً .. على العموم أنا بحب شعب بورسعيد، وبحب فيهم وطنيتهم، وحبهم لمصر ... خاصة بعدما اقتربت منهم خلال خدمتى كقائد للجيش الثانى الميداني. ثم أضاف سيادته، بأن له مع أهل بورسعيد، قصة لا ينساها أبداً، وقصها علينا، وكلى شغف فى الاستماع إلى تفاصيلها. فحكى سيادته، أنه فى أثناء حرب 67، وخلال انسحابه ومجموعة من الضباط، دونما خطة انسحاب واضحة، للأسف، وصلوا إلى بورسعيد فى فجر يوم 8 يونيو، بعد مسيرة عدة أيام. ونظراً لحالة الحرب التى تعيشها البلاد، خاصة فى منطقة القناة، فقد كانت جميع أضواء المدينة مطفأة. وحيث إن رحلتهم إلى بورسعيد كانت بلا مؤن، فقد كانوا جميعاً يتضورون جوعاً، فبحثوا عن مأوى لهم، يجدون فيه ما يقتاتون عليه، حتى وجدوا محلاً صغيراً للكباب، مفتوح الأبواب، وإضاءته خافتة للغاية.

يقول سيادة المشير، أن حلاوة مذاق تلك الوجبة لم يفارقه يوماً، منذ ذلك الحين، فقد كان أول طعام يدخل جوفهم منذ أربعة أيام. وعندما فرغوا من الطعام، طلبوا الحساب، فثار صاحب المحل ثورة عارمة، واعتبر ما طلبه الضباط، إهانة بالغة.. فكيف له أن يأخذ مقابلا ماديا ممن يبذلون أرواحهم دفاعاً عن أرضه وعرضه! . وأضاف صاحب المحل، أنه ممن حاربوا، ضمن صفوف المقاومة الشعبية، التى سلحها الرئيس عبد الناصر، إبان العدوان الثلاثى على مصر، عام 1956. وأنه من الموجة الأولي، من أبناء بورسعيد، الذين جروا باتجاه مطار الجميل، وتصدوا لأول مظلة إنجليزية، هبطت فيه، وأجهزوا على القوة الإنجليزية بكاملها ... مؤكداً أن شعب بورسعيد رجالة. يقول المشير، إنه أمام حماس هذا الرجل، ووطنيته، لم يستطع هو، أو من معه، أن ينطقوا بكلمة واحدة، أو أن يعارضوه فيما يقوله. وهبطت الطائرة العسكرية فى مطار الجميل، وتوجهنا مباشرة إلى النادى الجديد، الذى تم افتتاحه وسط وجود شعبي، غير مسبوق، من أهالى بورسعيد، الذين توافدوا بجميع طوائفه، للترحيب بالمشير طنطاوي، ومرافقيه من قادة القوات المسلحة، بحرارة وحب واضح. وفجأة جذبنى المشير طنطاوي، وهمس فى أذني، قائلاً: سمير.. أنا عاوز أروح أشوف الراجل صاحب محل الكباب، فأجبته: فين يا أفندم.. بورسعيد مدينة كبيرة.. سيادتك تعرف عنوانه؟، فقال إن كل ما يتذكره، هو وجود محله فى منطقة بواكى الشهيرة، ويقابله على الجهة الأخرى دار سينما. وبتجميع تلك المعلومات، مضافاً إليها، ما حكاه الرجل للمشير، من قبل، بأنه قطع المسافة إلى مطار الجميل، جرياً، لقتال الإنجليز، توصلت إلى أن محل الكباب يقع، فى الأغلب، فى حى العرب، وتحديداً فى عمارات البواكي، الواقعة أمام سينما مصر. فقلت لسيادة المشير، والله ممكن.

وما إن انتهى الاحتفال، حتى انطلقت مع المشير طنطاوى فى سيارة واحدة، دون حراسة، إلى حى العرب ... وفيما يشبه المعجزة، توصلنا إلى محل الكباب، فمعالم المنطقة تغيرت عبر السنين. ودخلنا المحل، فوجدنا اثنين من الشباب جالسين فيه، عرفنا منهما أنهما أبناء صاحب محل الكباب، وبسؤالهما عن إمكانية رؤيته، رحبا بذلك، وتوجه أحدهما لإبلاغه برغبتنا فى لقائه. وبعد عشر دقائق، وصل الحاج، وبصمات الزمن قد علت ملامحه، وأثرت على قدرته على الحركة، فتقدم إليه المشير طنطاوي، وسأله،: عارفنى يا حاج؟، فأجابه قائلاً، أيوه طبعاً ... بشوفك فى التليفزيون، فضحك المشير طنطاوي، وقال له: مش قصدى ... أنا الظابط اللى جيت لك، مع زملائي، أيام حرب 67، وأكلنا عندك بالليل، ولم تتقاض أجر معروفك لنا، فانتبه الرجل إلى ما يقوله المشير، ورد عليه: أوعى تكون زعلان إن اللحمة كانت قليلة ... والله دى كانت كل الكمية الموجودة فى الثلاجة. فابتسم المشير، لذاكرة الرجل، ودعابته اللطيفة، وقال له إنه لم يتناول وجبة ألذ من تلك الوجبة، فى تلك الليلة. نظر المشير حوله، وعبر عن تعجبه من محافظة الرجل على نشاطه، بالرغم مما طرأ على المدينة من تطورات، فأفاد الرجل بأن أولاده يرغبون فى تحويل المحل إلى بوتيك، بما يتناسب مع طبيعة المدينة الحرة، إلا أنه رفض ذلك مادام على قيد الحياة، تاركاً لهم حرية القرار بعد مماته.

وخلال رحلة العودة فى الطائرة، لم ينطق المشير بكلمة، على عكس ما اعتدنا عليه من سيادته، حتى أن جميع القادة المرافقين فى الرحلة، ظلوا يسألوننى عما حدث، وأين توجهت مع سيادته، وهل لذلك علاقة بصمته؟ وعند وصولنا إلى القاهرة، وقبل مغادرة قاعدة ألماظة، أخذنى سيادة المشير جانباً، وقال لي: «عاوزك الأسبوع الجاى تشرف على تطوير المحل، من حسابى الخاص، وتجديده، ومحتوياته وأجهزته، تجديداً شاملاً، وحاول مع أولاده ألا يعرف الأب بأننى وراء ذلك». وقبل أن أشرع فى تنفيذ توجيهات سيادته، تلقينا خبر وفاة الرجل، فحزن المشير حزناً شديداً لهذا الخبر، ورتبنا لمشاركة سيادته فى الجنازة، وفقاً لتعليماته، لولا أن التزاماً، منعه من مغادرة القاهرة، فى ذلك اليوم. فذهبت، ومعى عدد من القادة، نيابة عن سيادته، إلى بورسعيد للمشاركة فى تشييع جثمان هذا الرجل الوطني، وحضور العزاء. ومازال السيد المشير فى كل لقاء يجمعنى بسيادته، يقول لي: شعب بورسعيد ده جدع يا سمير.

ملحوظة: حصلت على موافقة من سيادة المشير محمد حسين طنطاوي، على نشر تلك الواقعة، بعد مناقشات طويلة مع سيادته، لإقناعه، خاصة أن سيادته قد اعتزل الحياة السياسية العامة، ويستمتع بأيامه مع أولاده وأحفاده، الشىء الذى افتقده طوال مدة خدمة سيادته للوطن.



Email: sfarag.media@outlook.com