العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

ولم أنطق بكلمة واحدة، فقد كنت أناجى الله. كان فى انتظارنا، السائق وأنا، سيارتا إسعاف انطلقتا بنا إلى مستشفى القبة العسكري.

لغــم فى الســلوم
 

لواء د. سمير فرج

 14 ديسمبر 2017


قادتنى خدمتى فى القوات المسلحة المصرية إلى قيادة إحدى الوحدات العسكرية، فى المنطقة الغربية العسكرية... المنطقة الحدودية المصرية الليبية... تلك المنطقة التى كانت أرضا للعديد من معارك الحرب العالمية الثانية، بين قوات المحور والحلفاء، خاصة معارك القوات الألمانية، بقيادة العظيم روميل، والقوات الإنجليزية بقيادة مونتجمري، أشهر القادة العسكريين على مر العصور. خلفّت تلك المعارك، وراءها، حقولا من الألغام على الأراضى المصرية، دون خرائط لتحديد أماكنها، فصار، ذلك، أحد معوقات التنمية، والمانع الرئيسى من إقامة أى مشروعات استثمارية هناك ... ولقد حاولت مصر، ومازالت تحاول، دون جدوى تذكر، على إجبار تلك الدول فى تحمل مسئولياتها نحو ضرورة التعاون، المالى والفني، لتطهير المنطقة من الألغام.

وفى أحد الأيام ... وأنا أجوب بسيارتى العسكرية، فى تلك المنطقة، لإجراء أحد التدريبات، وخلفى صف طويل من السيارات التى تقل القادة والضباط بالمنطقة ... فجأة... حدث انفجار كبير ... لقد وطأت عجلات السيارة على واحد من تلك الألغام المضادة للدبابات، فطارت السيارة فى الهواء، وأظلمت الدنيا من حولنا. هوت السيارة من ارتفاعها، وارتطمت بالأرض... وسمعت أصواتا تنادى من خلفى «محدش يقرب ... ده حقل ألغام»، إلا أن رئيس العمليات اندفع داخل الحقل، وسحبنى للخلف، ثم دخل، مرة أخري، ليحمل السائق، الذى ارتفع صراخه ... لقد بُترت، مع الأسف، ساقه اليسري، نتيجة لاصطدام السيارة باللغم من الجهة اليسري، أسفل مقعده. أما أنا فقد أيقنت أن الدنيا لم تظلم نتيجة لكثافة الغبار الناتج عن الانفجار، فحسب، وإنما نتيجة إصابة عيني. انطلق الجميع فى اتجاه أقرب مستشفى عسكرى فى المنطقة، لإجراء الإسعافات الأولية، ثم انطلقنا، مرة أخري، إلى مستشفى سيدى براني، على بُعد ساعة. فى تلك الأثناء، كان رئيس العمليات قد أبلغ القيادة المركزية بالحادث، وطلب ضرورة نقل الحالتين إلى القاهرة. وصلت الطائرة الهليكوبتر، من القاهرة، إلى مستشفى سيدى براني، بعد أربع ساعات من البلاغ، وحملتنا النقالات الطبية، أنا والسائق، على متنها، قبل أن تحلق، مرة أخري، متوجهة إلى القاهرة، فى رحله مدتها أربع ساعات، كانت هى الأطول فى حياتي. مرت الساعات كأنها سنوات، وأنا أرثى لحال السائق الذى يعلو أنينه على صوت محركات الطائرة الهليكوبتر الروسية الصنع من طراز «مى 8». ومن ناحية أخري، كانت الهواجس تتملكنى ... هل فقدت نظري؟ هل صرت ضريرا؟ هل تغيرت حياتى اعتبارا من اليوم؟ ... فرفعت الضمادات من على عيني، قليلا، بحثا عن بصيص أمل، فلم أر إلا ظلاما!

مكثت أربع سنوات، أقصد ساعات، هى عمر الرحلة، أدعو الله ... يا رب كن معى ... حتى وصلنا إلى قاعدة ألماظة العسكرية، ووجدت صديقى اللواء ممدوح الزهيري، واللواء رائف، رحمة الله عليه، فى انتظاري، فأمسكا بيدى يعضداني، ولم أنطق بكلمة واحدة، فقد كنت أناجى الله. كان فى انتظارنا، السائق وأنا، سيارتا إسعاف انطلقتا بنا إلى مستشفى القبة العسكري، الذى كان قد أُبلغ بوصول الحالات، فجهز أطقم الأطباء، من جميع الاختصاصات، لاستقبالنا، وفقاً للنظام المعمول به فى القوات المسلحة، فى حالات انفجار الألغام.

تفرقنا، أنا والسائق، كل منا فى غرفة عمليات منفصلة، ومعه طاقم الأطباء الخاص به ... وخضعت لكشف كامل، تأكد خلاله طبيب العظام من سلامة الجسم، وتأكد طبيب الجلدية من عدم وجود حروق، وحتى طبيب الأسنان تأكد من سلامة الفك والأسنان، وغيرها، قبل أن يتركونى جميعا للدكتور مصطفي، أستاذ جراحة العيون. علمت، بعد ذلك، أننى مكثت ثلاث ساعات بين يديه، عمل خلالها، هو وطاقم المساعدين، على استخراج جميع الشظايا الصغيرة من عيني، سواء الأتربة، أو حطام الزجاج الأمامى لسيارتى العسكرية، أو مخلفات اللغم المنفجر. خرجت من غرفة العمليات، وكتب الأطباء تقاريرهم المختلفة، وجاء تقرير طبيب العيون بأن قوة الموجة الانفجارية، أدت إلى حدوث نزيف داخلى بالعين، بمعنى أن العين قد امتلأت بالدماء من الداخل، مما أدى لفقدان البصر، الذى يأمل الطبيب فى أن يكون حالة مؤقتة، تزول بزوال العرض. وعندما سألت الطبيب عن معنى هذا، قال إن العناية الإلهية تتدخل، فى كثير من الأحيان، بأن يقوم الجسم بامتصاص ذلك التجمع الدموي، فيعود البصر. وبناء عليه، فقد قرر الطبيب أن يمهل جسدى 48 ساعة، فسيتعين على السفر، فورا، إلى إسبانيا، لإجراء عملية أخرى هناك. وبدأ اللواء ممدوح الزهيري، فى الإعداد للسفر إلى إسبانيا، إذا ما اقتضى الأمر، وتم حجز موعد، فى اليوم الثالث، مع الخبير الإسباني، الذى نصح به طبيبى الدكتور مصطفي. وطلبت من صديقى اللواء ممدوح ألا يخبر أيا من أفراد أسرتي، إلا أمى ...

لا أنسى موقف اللواء عمر سليمان، رحمة الله عليه، عندما أمر بإرسال إحدى سيارات القوات المسلحة لإحضار والدى ووالدتى من بورسعيد ... وكانت المهلة قد أوشكت على الانتهاء، وحان موعد رفع الغطاء عن عيني، لمعرفة إذا ما كانت المعجزة الإلهية قد حدثت، أم أن سفرى إلى إسبانيا صار حتميا. فأصرت والدتى على مصاحبتى وفريق الأطباء إلى غرفة العمليات، وفى مشهد أقرب بالأفلام السينمائية، رفع الدكتور مصطفى الضمادات عن عيني، لتتجلى لى قدرة الله، سبحانه وتعالي، ورأيت شعاع نور، أعاد لى الأمل، وبدت لى ملامح الدكتور مصطفي، الذى لم أكن قد رأيته من قبل، وهو يتأكد منى أننى أرى الضوء، وما أن أجبته بالإيجاب، حتى رأيت أمي، فى زاوية غرفة العمليات، تسجد شكرا لله.

أتم الدكتور مصطفى عمله، وتأكد من سلامة العين، ومكثت فى المستشفى أسبوعا، حتى اختفى التجمع الدموي، وخرجت سليما، إلا من بعض آثار الإصابة، وعدت، مرة أخري، إلى عملى فى منطقة السلوم، مرتديا نظارة سوداء لمدة ستة أشهر ... فوضعت صورة لسيارتى العسكرية، بعدما دمرها اللغم، تحت زجاج مكتبي، لتذكرنى دائما، بفضل الله، سبحانه وتعالى ...



Email: sfarag.media@outlook.com