العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

مرت السنوات، سريعاً، وإذا بي جالساً بمسرح المدرسة الألمانية، أشاهد حفلاً بديعاً، يضاهي في رقيه وانضباطه، تلك الاحتفاليات التي تعقد في ألمانيا ... إنه حفل تخرج حفيدتي، فرح، بعد حصولها، على شهادة «الأبيتور» الألمانية، المعادلة للثانوية العامة، وكان ترتيبها متقدماً، بما أهلها للحصول على «منحة تفوق» لاستكمال دراستها في ألمانيا.

حفيدتى الكبرى
 

لواء د. سمير فرج

 2 نوفمبر 2017


من أكبر المعضلات التي تواجه معظم الأسر المصرية، في يومنا هذا، هو اختيار المدرسة المناسبة لالتحاق أبنائهم بها، مع بدء انطلاق حياتهم العلمية. عشت تلك التجربة مع أبنائي، وأقر بأن الأمور كانت، في الماضي، أبسط وأسهل، ولكنها ازدادت تعقيداً مع صعوبة الحياة، وكثرة متطلبات العصر.

وعشت التجربة، مرة أخرى، منذ نحو خمسة عشر عاماً، مع أولى أحفادي ... التي كانت رغبة والدتها أن تلحقها بإحدى المدارس الألمانية، القليلة جداً، الموجودة بالقاهرة، وكان الالتحاق بها «أشبه بدخول الجنة» كما سمعت، آنذاك ... وبدأنا السؤال، والسعي، مع البحث عن عشرات التوصيات، وتم قبول حفيدتي.

وذهبت إلى المدرسة، بعد تحديد موعد، لالتقي مديرتها، وأشكرها، فبادرتني قائلة بأنه لا داعي للشكر، فالمدرسة لا تقبل الوسائط، وإن كانت حفيدتي قد قُبلت فيها، فلذلك أسبابه المحددة ... وسحبت من على مكتبها ملفا، مدونا عليه اسم حفيدتي، لتطلعني على ما فيه من أسباب القبول.

قالت لي المديرة، إن المقابلة التي حُددت لحفيدتي، ووالديها، بعد التقديم للمدرسة، قد عُقدت بواسطة لجنة مكونة من ثلاثة أعضاء، لكل منهم تخصصه واختصاصه؛ أحدهم موكل إليه تقييم الأم، والثاني لتقييم الأب، والأخير لتقييم الطفل ذاته ... ثم أمعنت النظر إلى الأوراق الموجودة أمامها، واستطردت قائلة أن حفيدتي طُلب منها في ذلك اليوم، عند بدء اللقاء، أن تتوجه إلى ركن الألعاب «لتفعل ما تشاء»، بينما يتابعها، عن بُعد، عضو اللجنة المسئول عنها ... فذهبت حفيدتي، وسحبت من بين الألعاب الكثيرة، علبة المكعبات، وبدأت تكّون بها أشكالاً وأرقاماً وحروفاً ... وبانتهاء الوقت المحدد للقاء، نادت عليها والدتها، وقبل أن تغادر الطفلة، رصت المكعبات في علبتها، وأعادتها، مرة أخرى، إلى مكانها على رف الألعاب ... فكان هذا سبب قبول حفيدتي في المدرسة الألمانية، كما أفادتني المديرة، وفقاً للتقرير الذي تم إعداده عنها!

انتظمت حفيدتي في دراستها، لسنوات عدة، وجاءت يوماً لزيارتي في الأقصر، عندما كنت محافظاً لها، وتصادف، في هذا اليوم، وجود السفير الألماني في ضيافتي، والتقى حفيدتي، فانبهر بمستوى إجادتها للغة الألمانية، كإحدى أبنائها، فضلاً عن الإنجليزية والفرنسية، على حد سواء، فما كان منه إلا أن اتصل، فوراً، بمديرة المدرسة، وشكرها على حسن آداء المدرسة، بعدما خاض اختباراً عملياً لإحدى طالباتها.

مرت السنوات، سريعاً، وإذا بي جالساً بمسرح المدرسة الألمانية، أشاهد حفلاً بديعاً، يضاهي في رقيه وانضباطه، تلك الاحتفاليات التي تعقد في ألمانيا ... إنه حفل تخرج حفيدتي، فرح، بعد حصولها، على شهادة «الأبيتور» الألمانية، المعادلة للثانوية العامة، وكان ترتيبها متقدماً، بما أهلها للحصول على «منحة تفوق» لاستكمال دراستها في ألمانيا.

وحضرت لجنة من ألمانيا للقاهرة، لاختبار الحاصلين على منحة التفوق، وأفاد أعضاؤها بأن المنحة تكون لعام واحد فقط، ويشترط التفوق، لتجديدها لعام تالي، وهكذا، حتى الانتهاء من الدراسة الجامعية، التي تمتد لثلاث سنوات، وفقاً للنظام الألماني ... وهنا، وأمام أعضاء اللجنة، رفضت حفيدتي هذا الشرط، مبررة رفضها بأنه غير مستعدة لفقد المنحة الدراسية، لأسباب قد تتعلق بمرض مفاجئ، على سبيل المثال ... ولم تكتف برفض شرط المنحة، بل أملت هي شروطها على أعضاء اللجنة، ثقةً منها في قدراتها، «إما المنحة لثلاث سنوات دراسة جامعية كاملة، أو الاعتذار عنها» ... وفي سابقة تُعد الأولى من نوعها، وبعد فحص ملف حفيدتي التي اجتازت جميع سنواتها الدراسية بتقدير امتياز، وافقت اللجنة، فوراً، على شرطها، واعتمدت منحتها لثلاث سنوات دفعة واحدة.

وجاءت لحظة القرار الصعب ... هل تسافر حفيدتي، التي لم تتجاوز الثامنة عشر من عمرها، إلى ألمانيا وحدها؟ استشارتني ابنتي وزوجها، تاركين لي القرار النهائي ... ولصعوبته على نفسي، رأيت أن نطرحه للنقاش على «مجلس العائلة»، عندما يجتمع الأولاد والأحفاد يوم الجمعة من كل أسبوع ... وبعدما انتهينا من غذائنا، بدأنا النقاش ... «ما رأيكم في سفر فرح إلى ألمانيا للدراسة؟» ... استمر النقاش لمدة أربع ساعات كاملة، ساق فيها جميع أفراد العائلة أسبابهم للقبول أو للرفض ... استمعت خلالهم للصغير، قبل الكبير، فلكل منهم وجهة نظره، وأسبابه ... وانتهى النقاش بالتصويت بالموافقة على سفر فرح.

وسافرت حفيدتي الصغيرة، وحدها، إلى ألمانيا ... وانفطر قلبي لبُعدها، حتى أنني لم أقو على توديعها قبل السفر ... وبالرغم من مرور عام، وبعض العام، على سفرها، وبالرغم من تعدد الزيارات المتبادلة بيننا، وبالرغم من التطبيقات التكنولوجية الحديثة على الهاتف المحمول التي تتيح لنا رؤيتها في كل دقيقة، وكأننا نعيش معها، إلا أنني مازلت استشعر مرارة غيابها بشدة.

حصلت حفيدتي على تقدير امتياز في عامها الجامعي الأول، وقبل أن تبدأ عامها الثاني، كانت الجامعة قد قدمت لها منحة، جديدة، لدراسة الماجستير بها، بشرط الرد رسمياً، الآن، بالقبول أو الرفض، لتتمكن الجامعة من اتخاذ إجراءاتها المتعلقة بالأمر.

وأصبح القرار أكثر صعوبة، وأشد تعقيداً، وحساباته مختلفة، لما له من تأثير على مستقبلها العلمي والعملي، وكذلك مستقبلها الشخصي ... فأنا أعلم أن موافقتها، اليوم، تعني أن الأمر سيمتد لنيل درجة الدكتوراة، فالجامعة لن تتركها ... وشهادة الدكتوراة من ألمانيا، تعني مجالات عمل أرحب وأوسع في الخارج، سواء في ألمانيا أو غيرها، بما يعني عدم عودتها.

والآن، أنا في انتظار انعقاد «مجلس العائلة»، من جديد، بمشاركة حفيدتي فرح، غداً، بإذن الله، للمناقشة والقرار ... هل تستكمل فرح دراستها العليا في ألمانيا ... أم تكتفي بالشهادة الجامعية وتعود إلى مصر؟



Email: sfarag.media@outlook.com