العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

أقسم بربي، أن تلك اللحظة كانت من أسوا ما مر بى طيلة حياتي. تركت والدي، وتوجهت للمشاركة فى الحفل، غير مصدق بأن حلم حياتى قد ضاع ... لن أكون ضابطاً مقاتلاً يدافع عن مصر.

يوم التخرج فى الكلية الحربية
 

لواء د. سمير فرج

 28 سبتمبر 2017

تخرجت فى مدرسة بورسعيد الثانوية وأنا فى الخامسة عشرة من عمرى... وكان حلم أن أصبح، يوماً، ضابطاً أدافع عن بلادي، يسيطر عليّ منذ عدوان 56 على بورسعيد... فالتحقت، فور تخرجي، بالكلية الحربية ... والحقيقة، أنه لولا ثورة 52، لما التحق أحد من أبناء بورسعيد بالكلية الحربية.

وبعد عامين من انتظامى فى الكلية الحربية، وفى أحد أيام عودتنا من الإجازة الأسبوعية، يوم الجمعة، جاءت المفاجأة... امتحانات التخرج ستُجرى فى الأسبوع القادم ... وسيشهد المشير عبدالحكيم عامر حفل تخرجنا يوم الخميس من ذات الأسبوع. وكان نظام التخرج المبكر، من الكليات الحربية، متبعا حول العالم، عندما تكون الدولة فى حالة حرب... وهو ما كان فى الحالة المصرية، إذ كانت قواتنا المسلحة مشاركة، بالفعل، فى حرب اليمن.

وفى صباح يوم حفل التخرج، التقيت والدى قبل الحفل، فبادرنى مهنئاً، بأن الفريق مرتجي، رحمة الله عليه، والذى كان صديقاً مقربا للعائلة، قد أبلغه بأنه سيتم توزيعى على قوات خفر السواحل ... وكان ذلك حلم والدي، وهو مأمور جمرك بورسعيد، بأن يرى ابنه هو ذلك الضابط، الآمر الناهى على بوابة الجمرك ... مضيفاً أن والدتى لم تنم، طوال الليل، من فرط سعادتها بأننى لن أذهب إلى اليمن ... خاصة أن من شهدائنا فى اليمن، فى العام السابق لتخرجي، اثنين من جيراننا فى بورسعيد. لم يدرك والدي، رحمه الله، بأن الخبر الذى حمله قد وقع على كالصاعقة ... فأنا لم انضم للكلية الحربية، لأتخرج فيها مفتشاً على بوابة الجمرك ... أو على بوابة ميناء الصيد، لأتأكد من أن شِباك الصيادين لا تقضى على الذرّيعة!!!

أقسم بربي، أن تلك اللحظة كانت من أسوا ما مر بى طيلة حياتي. تركت والدي، وتوجهت للمشاركة فى الحفل، غير مصدق بأن حلم حياتى قد ضاع ... لن أكون ضابطاً مقاتلاً يدافع عن مصر. وبدأ طابور حفل التخرج ... ولم أدرك أننى لم أنفذ أوامر قائد الطابور، عندما نادى «كتفا سلاح ... سلام سلاح» إلا بعدما وكزنى زميلى فى الطابور، حمدى شرف، هامساً أنت سرّحت فى إيه؟! «وتحرك طابور العرض للمرور أمام المنصة، لتحية المشير عامر، ونادى قائده، مرة أخري، لليمين أنظر» فنفذت الأمر، ولكننى لم أر وجه المشير عامر ... فقد امتلأت عيناى بالدموع، حتى حجبت الرؤية تماماً. وعدنا لأرض الطابور، لنردد القسم ... فتعثرت الكلمات فى حلقي، وازداد تأثري، عندما نص القسم بأننى «مدافعاً عن بلادى ... مدافعاً عن سلاحى ... لا أتركه قط حتى أذوق الموت» ... فكيف يكون تفتيش طوالى السمك دفاعاً عن بلادي؟!

وانتهى طابور العرض ... وغادر الضيوف... وتوجهت إلى زملائى لأحييهم، قبل أن أغادر إلى بورسعيد مع والدي، الذى قال إن والدتى تنتظرنى على أحر من الجمر، ففوجئت بأحد المدرسين، الرائد/ عبدالفتاح زبيب، يقول لى «مبروك يا واد يا سمير ... طلعت الخامس على الدفعة ... والتحقت بسلاح المشاة». لم أصدق أذنىّ ... فتركت بندقيتى إلى زميلى حمدى شرف، وانطلقت إلى لوحة إعلانات مبنى محمد فريد، حيث النتيجة، وتوزيع الأسلحة ... وزاحمت لأصل للكشوف لأرى بعينى اسمى ضمن سلاح المشاة ... أو «سادة المعارك» كما يُطلق عليه.

والتف حولى زملائى مهنئين ... فأنا الخامس على الدفعة، رغم أننى لم أحصل على 100 درجة إضافية مثل حماده أمام، وعباس لاعبى كرة القدم فى نادى الزمالك، أو حمدي، وسمير زاهر لاعبى النادى الأهلي، وغيرهم من المتفوقين رياضياً. ثم أسرعت إلى أبي، أزف إليه خبر انضمامى لسلاح المشاة، وأستأذنه فى قضاء ليلتى فى القاهرة، للاحتفال مع زملائى ... فأصابه بعض الذهول، قائلاً مش عارف هأقول إيه لوالدتك؟!.

وهكذا تخرجت فى الكلية الحربية، وعمرى 17 عاماً وثلاثة أشهر ... وبعدها بشهور قليلة، تحركنا إلى اليمن ... وكانت أول إجازاتى بعد سنة، عدت منها لليمن، لأجد سرية المشاة، التى كنت أحد رجالها، قد وقعت فى كمين، واستشهد أغلبية ضباطها، بمن فيهم قائدها النقيب الخراشي، والملازم الملط، ولم يتبق من قوتها سوى 24 جنديا، من أصل 130. مكثت فى اليمن ثلاث سنوات، وبعد عودتي، أذكر أن والدى مازحنى قائلاً أن دعوات وصلوات والدتى بعودتى سالماً، كانت أقوى من دعواتها للفريق مرتجى لألتحق بخفر السواحل.

ولقد علمت فيما بعد، أنه عند عرض نتيجة التخرج وتوزيع دفعتي، على الفريق محمد فوزي، مدير الكلية الحربية، آنذاك، شطب توزيعي، قائلاً إنه من غير المعقول أن يُوزع خامس الدفعة على خفر السواحل، ثم أشّر بجانب اسمى «سلاح المشاة» ... فكانت تأشيرته، رحمة الله عليه، سبباً فى تغيير مجرى حياتى من ضابط يعّد طوالى السمك فى بورسعيد ... إلى ضابط مقاتل فى اليمن، وفى حرب 67، وحرب الاستنزاف، وحرب 73، أعقبهم التحاقى بكلية أركان حرب، التى تخرجت فيها الأول على دفعتي، وسافرت لكلية كمبرلى الملكية فى إنجلترا، وعملت بها مدرساً، كأول ضابط من خارج دول الكومنولث ... وتوالت أحداث حياتى المهنية.

واليوم ... وأنا استعيد تلك الذكريات ... وبرغم شغفى للالتحاق بحرب اليمن ... إلا أن أهوالها... وما فقدته مصر فيها من أرواح ... وما تم استنزافه خلالها من موارد... يجعلنى ممتناً لقرار الرئيس السيسي، بعدم اشتراك مصر بقوات برية ضمن قوات التحالف العربى فى اليمن ... والذى قد لا يعى البعض، حالياً، الحكمة من هذا القرار ... إلا أن التاريخ سيمجده، يقيناً، ولو بعد حين. ذلك القرار الذى حافظ على أرواح شباب مصر من الانزلاق فى مغامرة جديدة على جبال وسفوح اليمن. اللهم احفظ شباب مصر ... وأدم على مصر نعمك، بمنحها قيادات حكيمة تحافظ على أمنها، ووحدتها، واستقرارها.



Email: sfarag.media@outlook.com