العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

اتت نتائجها مخيفة للحكومة الألمانية؛ حيث أظهرت أنه بحلول عام 2050، سيكون ثلث تعداد السكان فى ألمانيا من الأتراك المسلمين.

المستشارة ميركل ومصلحة ألمانيا
 

لواء د. سمير فرج

 21 سبتمبر 2017


ثلاث سنوات أمضيتها فى العاصمة التركية، أنقرة، ملحقاً عسكرياً لمصر. تجاور مكتبى خلالها، فى السفارة المصرية، مع السفارة الألمانية فى أنقرة. لاحظت عند وصولى إلى أنقرة أن الأتراك يتزاحمون كل صباح حول أبواب السفارة الألمانية، مسببين إعاقة شديدة فى الحركة المرورية أمامها، مما يضطرنا، أعضاء البعثة الدبلوماسية المصرية، إلى الترجل حتى مكاتبنا داخل مبنى السفارة، على أن تلحقنا العربات، فيما بعد، عند فتح الطريق.

ومع تكرار المشهد نفسه يومياً، كان طبيعياً أن استفسر عن سبب هذا الزحام من الأتراك حول السفارة الألمانية بالذات فى أنقرة، فعلمت أنه نتيجة لأن الشعب الألماني، الذى يعتبر نفسه من الجنس الآري، والذى كان يقول عنه هتلر إنه «خير أجناس الأرض»، كان هذا الشعب يرفض القيام بأى «أعمال دونية»، أو كما يقال بالإنجليزية Dirty Work، مثل تنظيف الشوارع، وأعمال السباكة، وغيرها ممن أطلقوا عليها أعمالاً دونية، لذلك تقوم ألمانيا باستقدام أجانب للقيام بهذه الأعمال داخل ألمانيا. ونظراً للعلاقات التاريخية بين ألمانيا وتركيا منذ تحالفهما فى الحرب العالمية الأولي، بدأ الغزو من الشعب التركى للعمل فى ألمانيا.

والحقيقة أن الشعب التركى كان من أنسب الشعوب المتماشية مع طبيعة الشعب والثقافة الألمانية؛ لما يتميز به الشعب التركى من انضباط، ونظافة شخصية، وطاعة، فضلاً عن الإخلاص فى العمل، مما دفع بزيادة الطلب على استقدام الأتراك للعمل فى هذه الوظائف فى ألمانيا. وزادت الأعداد أكثر فأكثر، خاصة بعد توحيد ألمانيا، وما صاحب ذلك من توقف أعمال التطوير فى ألمانيا الغربية لمدة خمس سنوات متواصلة، تم خلالها التركيز وتوجيه الموارد لإقامة بنية أساسية جديدة فى ألمانيا الشرقية، مثل مشروعات الطرق، ومحطات السكك الحديدية، ومشاريع المياه والصرف الصحي، والكهرباء .. إلخ.

استلزمت، تلك الخطة، المزيد من الأيادى العاملة، لتنفيذ حجم هذه الأعمال. فزاد استقدام الأتراك، ليصل حجم العاملين منهم فى ألمانيا إلى ثلاثة ملايين مواطن تركي. مليونان منهم من الأكراد الأتراك الفارين من جنوب تركيا، موطن الأكراد،إلى ألمانيا هرباً من تعسف الحكومة التركية ضدهم، المتمثل فى سوء حالة الخدمات الصحية والتعليمية فى الجنوب التركي، وحظر الحكومة التركية استخدام اللغة الكردية فى المدارس هناك، بغية طمس الكيان الكردى نهائياً. لذلك كان الأكراد الأتراك سبّاقين للهجرة إلى ألمانيا، وما أن يستقر الفرد فيها، حتى يبدأ فى استقدام باقى أفراد أسرته، وأبناء عمومته، وحتى جيرانه للقدوم إلى ألمانيا. وتمركزوا، بالفعل، فى ألمانيا وأقاموا تجمعاتهم، وأسسوا المدارس الكردية، واستفادوا من التقدم التكنولوجى فى إرسال برامج تلك المدارس، عبر الأقمار الصناعية،إلى أهلهم فى جنوب تركيا.

وفى عام 2010، حل موعد المسح السكانى فى ألمانيا، الذى يتم، فى جميع الدول المتقدمة، كل خمس سنوات، فجاءت بيانات التعداد تحمل أرقاماً مفزعة للحكومة الألمانية حول تواجد الأتراك فى ألمانيا، وزاد من خطورة الأمر وتعقيده، ما أعقب عملية التعداد من تحليلات سكانية، كانت نتائجها مخيفة للحكومة الألمانية؛ حيث أظهرت أنه بحلول عام 2050، سيكون ثلث تعداد السكان فى ألمانيا من الأتراك المسلمين، كنتيجة لأن الأسر الألمانية غالباً ما تقوم بإنجاب طفل واحد أو طفلين على الأكثر، بينما الأسر الكردية التركية المسلمة تنجب، فى المتوسط، من أربعة إلى خمسة أطفال، إذ لا يحبذ، الكثير منهم، فكرة تنظيم الإنجاب.عند الوصول إلى تلك الحقائق والبيانات، اجتمعت الحكومة الألمانية وقررت إيقاف الهجرة التركية إلى ألمانيا.

وبالرغم من هذا القرار، فإن الحاجة إلى عمالة ظلت مطلبا ألمانيا، ويبدو أن طاقة القدر قد فُتحت أمام الحكومة الألمانية، باندلاع ثورات الربيع العربي، وبدء تدفق اللاجئين السوريين على أوروبا. فجاء قرار الحكومة الألمانية بفتح الباب لاستقبال مليون لاجئ سورى للدخول إلى ألمانيا. تم استقبالهم، بالفعل، بين عامى 2012 و2013، ولم يتم إيداعهم فى معسكرات لإيواء اللاجئين، وإنما بدأت الحكومة الألمانية،على الفور، فى توظيفهم ودمجهم داخل المجتمع الألمانى بواسطة خطة رائعة تدرس فى علوم التنمية البشرية؛ فالأطفال تم تسجيلهم فى المدارس بعد توزيعهم، وذويهم، على مختلف المقاطعات الألمانية، وتم وضع برامج تدريب مهنى للقادرين على العمل، لينضموا لسوق العمل، كأفراد منتجين، فى خلال عام من وصولهم إلى ألمانيا، وبالتوازى مع ذلك تم تخصيص دورات فى اللغة الألمانية لتيسير الاندماج فى المجتمع الألماني.

وتوافر فى الخطة الألمانية عامل مهم، وهو المتابعة الدقيقة، والتى مكنتها، هذا العام،من طرد مائة ألف لاجئ سوري، وإعادتهم إلى معسكرات اللاجئين فى تركيا بعدما ثبت لها عدم قدرتهم على العمل والتكيف مع المجتمع الألماني. فى حين أن نحو 900 ألف سورى نجحوا فى الاندماج مع المجتمع الألماني، وأعتقد أنهم لن يعودوا لبلادهم، حتى بعد استقرار الأمور فيها، بإذن الله. لقد أصبح من المألوف فى شوارع ألمانيا، حالياً، أن تجد محلات الشاورما السورية منتشرة بها، وهو ما دفع بالمستشارة ميركل إلى زيارة تلك المحلات وتناول الطعام فيها، لإظهار مساندة ألمانيا للسوريين العاملين بها.

واليوم سألت الملحق العسكرى المصرى فى أنقرة عن حال الدخول إلى مبنى السفارة المصرية هناك، فضحك مؤكداً أن الوصول إلى مكتبه لا يعوقه زحام بعد منع تأشيرات الهجرة للأتراك. لقد أردت أن أسوق هذا الموضوع لأرد به على المهللين أيام «ثورات الربيع العربي» بمقولة «شوفوا ألمانيا تحتضن المسلمين. وإحنا فى البلاد العربية لم نوفر لهم المكان». لهؤلاء أقول، أن زيارة إلى مدينة الرحاب أو مدينة السادس من أكتوبر كفيلة لإثبات كذب إدعاءاتهم، إذ ستجد الإخوة السوريين قد استقروا فيهما، وفى غيرهما، ضيوفاً أعزاء علينا، لم نتضرر منهم يوماً، ولم نتاجر بقضيتهم، لتحقيق مصالح شخصية. وهذا درس للجميع ... لعلنا نعى أهمية تحليل بيانات التعداد السكاني، التى مكنت ألمانيا من تحجيم الوجود التركي، مع عدم التخلى عن حاجتها من العمالة.



Email: sfarag.media@outlook.com