العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

ساقتني الظروف، للتوجه إلى شرم الشيخ، في زيارة قصيرة، لمدة يوم واحد. ذهبت لأرحب بصديق أجنبي، زاملني في الخارج، حضر هو وعائلته، لقضاء أجازة في شرم الشيخ، بناءاً على توصية مني، ولكثرة ما سمع عنها، في لقاءاتنا السابقة.

 في الطائرة ... إلى شرم الشيخ

لواء أ.ح. دكتور/ سمير فرج

 

ساقتني الظروف، للتوجه إلى شرم الشيخ، في زيارة قصيرة، لمدة يوم واحد. ذهبت لأرحب بصديق أجنبي، زاملني في الخارج، حضر هو وعائلته، لقضاء أجازة في شرم الشيخ، بناءاً على توصية مني، ولكثرة ما سمع عنها، في لقاءاتنا السابقة.

هبطت الطائرة في مطار شرم الشيخ الدولي، لأجده شبه خاوياً، إلا من عدد من العاملين به. ذلك المطار الذي كان يعج بالطائرات من كل صوب وحدب، في كل شهور العام. استقليت السيارة، متوجهاً إلى الفندق، فبدت لي مدينة شرم الشيخ، كمدينة الأشباح ... مازالت شوارعها الواسعةيزين النخيل جانبيها، ولكنهاخالية من مظاهر الحياة ... خالية من السيارات ... خالية من المارة. فبعدما كنا نقطع الطريق من المطار إلى خليج نعمة، في مدة تقترب من الساعة، وجدتني في هذا اليوم، وحدي على ذات الطريق! سألت سائقي عن أحوال المدينة، فبادرني قائلاً "زي ما حضرتك شايف ... المدينة فاضية ومفيش زباين ... وكل يوم أصحى خايف اسمع خبر إنهم استغنوا عني ... المئات من زمايلي رجعوا بلدهم علشان مفيش شغل".

ووصلنا إلى خليج نعمة، والسكون مازال سيد الموقف ... وأنا في قمة ذهولي مما أرى، فأنا أعرف كل شبر في هذه المدينة ... فقد عشت بها ثلاثة شهور متواصلة، عندما كنت وكيلاً أول لوزارة السياحة، وكنت مسئولاً عن تقييم جميع فنادق هذه المدينة الرائعة ... دخلتها فندقاً فندقاً ... وحجرة حجرة ... صنفت نحو 80% من الفنادق الموجودة إلى خمس وأربع نجوم ... وتوقيعي على تقييماتها يشهد بذلك. أصابتني الحسرة وأنا أرى، حجم الاستثمارات في البنية الأساسية في مدن مثل شرم الشيخ أو الغردقة، وحجم الاستثمار في فنادقها ومنتجعاتها السياحية، المتوقفة، اليوم، عن العمل، وبعضها مغلق تماماً. توقف العمل بهم، فتوقفت، بالتالي، الحياة في بيوت الآلاف من العمال، والأسر، الذين اضطرتهم تلك الظروف إلى العودة إلى بلادهم وقراهم، ومعظمهم من صعيد مصر، لا يعلمون ما يخبئ لهم القدر.

ودخلت إلى الفندق، والتقيت صديقي، الضيف الأجنبي، المبهور مما يرآه حوله من جمال، سواء جمال الطبيعة المحيطة، أو جمال الفندق ... إلا أنه لم يفته أن يلحظ عدم وجود سائحين به، إلا من نفر قليل ... وليس بمقر إقامته فقط، وإنما انسحبت ملاحظته على كل مكان ذهب إليه. فالفندق رائع، ولكنه خالياً من السياح، والشاطئ أروع ولا يوجد عليه أحد، والمياه رائعة، ولا تجد من يستمتع بها. وتوجهنا إلى مطعم الفندق، لتناول الإفطار، فلم أجد البوفيه المفتوح، الذي كنت دائماً ما آراه في جميع فنادقها، وقد رصت عليه مختلف الأصناف الشهية، التي تلبي رغبات كل الموجودين، بل وجدت قائمة الطعام، لأطلب منها ما أريد، في إشارة إلى أن تكاليف إقامة البوفيه المفتوح، في كل صباح، لم تعد مجدية، بل أصبحت تمثل خسارة لأصحاب تلك الفنادق، في ظل الأعداد الهزيلة للسياح.

وأثناء الإفطار، حدثني صديقي عن رحلته البحرية في اليوم السابق، على متن مركب صغير، والتي استقلها مع عائلته، وكان معهم عائلة أخرى... فتذكرت تلك الرحلات البحرية، التي كان يعج بها ميناء شرم الشيخ في كل صباح، يقل كل مركب منهم، وهم كثير، ما لا يقل عن عشرون سائح ... يستمتعون بالطبيعة، والنشاطات البحرية، ويتناولون غذاءهم على ظهر هذه المراكب، قبل عودتهم عند الغروب. كانت كثرة الطلب على تلك الرحلات البحرية، يتطلب حجزاً مسبقاً!

وللأسف، لم أستطع أن أرحب بصديقي، بالقدر الكافي، فقد همني ما رأيته في الفندق، وفي المدينة كلها منذ وصولي. وعلم مدير الفندق بوجودي، فجاءنييحمل معه، شهادة تقييم الفندق بخمس نجوم، التي تحمل توقيعي، منذ 16 عاماً، وليشاركني همومه، قائلاً بأنهم اضطروا لتسريح أكثر من 80% من العمالة لديهم، فهم بالكاد يوفون مرتبات القلة الباقية، بالإضافة إلى تكاليف الكهرباء، والمياه، والصيانة، والتي أعلم أنها مرتفعة، بل أن البعض منهم يعمل بالخسارة، آملاً في عودة السياحة عما قريب. ومع تدهور الأحوال، اضطروا أيضاً إلى توقيف العديد من الأنشطة التي كانت الفنادق تتبارى في تقديمها، مثل الأنشطة البحرية، أو الحفلات الليلية ... حتى الطعام، فقد صاروا يقدمون أنواعاً قليلة منه.

ولم أبق طويلاً، إذ طلبت تبكير موعد عودتيإلى القاهرة، وتوجهت إلى المطار، ماراً،مرة أخرى،بمدينة الأشباح... فتبادر إلى ذهني، ما لم يغب عن ذاكرتي يوماً، مدينة بورسعيد الحبيبة، بعد النكسة في عام 67 ... عندما تم تهجير أبناء المدينة، ومدن القناة، إلى محافظات أخرى. تذكرت أن والدي رفض مغادرة بورسعيد، حينئذ، قائلاً لي "لو قدر لي الموت، وهو قادم لا محالة، فأريد أن أموت في بلدي ... بورسعيد"، وكنت أزوره، ووالدتي، في كل أجازة لي، فأحزن لرؤية المدينة الحبيبة، مهجورة ... شوارعها خالية ... ومنازلها مغلقة ... وأسواقها فارغة. وعندما كنت أذهب إلى رصيف ديليسبس، حيث أمضيت أجمل أيام حياتي، لم أكن أجد أحد هناك ... أراقب المياه في قناة السويس ... والحياه متوقفة تماماً ... والسفن متوقفة ... تكاد تشعرك بأن المياه قد ركدت في القناة، حزناً على ما جرى لمدنها.

وجلست على مقعدي في الطائرة ... وبدأت أخاطب نفسي ... لقد تغلبت مصر على ما حدث في مدن القناة ... التي كانت، يوماً، مدناً للأشباح، والآن عادت قناة السويس ... بل وتم توسعتها ... وتم عمل منظومة استثمارية جديدة على ضفاف القناة ... بعد حرب شرسة ... كللها الجيش المصري بانتصاره في عام 73.إذن الحياة ستعود، مرة أخرى، إلى شرم الشيخ ... وسيعود إليها السياح ... وستعود العمالة المصرية، من قرى ومدن الصعيد، إلى شرم الشيخ والغردقة ... وستبحر المراكب في رحلات بحرية يومياً ... وستعود أنشطة الغطس، وغيرها من الأنشطة التي تميز شرم الشيخ والغردقة ... وسيستأنف الاستثمار في هذه المدن الجميلة.

لقد مرت مصر بظروف أصعب مما تمر به اليوم ... وتغلبت عليها جميعاً. إن مصر قوية ... ومهما مر عليها من أزمات وصعاب، فإنها تنتصر عليها، مهما طال الوقت ... هكذا حدثنا التاريخ ... القديم منه والحديث ... ولنا في نكسة 67 وملحمة 73 عبر ودروس ... يقيني أن الله يقف دائماً مع مصر، ومع شعبها، ما أخلص في عمله لأجلها ... لك الله يا مصر!

Email: sfarag.media@outlook.com