العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

والآن عزيزى القارئ، وأنت فى القطار، مشرف على دخول مدينة الأقصر، تستقبلك بمنظرها البهي، بعدما اكتست بلون موحد متسق، ومتناسق مع طبيعتها التاريخية، فتفردت به، ونالت ما تستحقه من تميز.

«الجريج»
 

لواء د. سمير فرج

 28 مارس 2019


ثلاث سنوات قضيتها ملحقا عسكريا فى العاصمة التركية، أنقرة، تلك العاصمة الجديدة، التى أسسها الرئيس التركى الأسبق، مصطفى كمال أتاتورك، على عجل، بعد سقوط الدولة العثمانية، لتكون نواة للدولة العلمانية الجديدة... ونتيجة للعجل، فقد تم تخطيط، وتنفيذ، هذه العاصمة بإمكانات محدودة نسبيا، لا تتناسب مع دولة بحجم تركيا، فافتقرت بعض الأساسيات الواجب توافرها، لذا كان سكان أنقرة، يغادرونها، فى عطلات نهاية الأسبوع، متجهين إلى ساحل أنطاليا، للاستمتاع بالمنتجعات السياحية، المطلة على سواحل البحر الأبيض المتوسط.

ولكن فى الحقيقة، وبالرغم من جمال التصميمات، ودقة التخطيط، وحجم الإقبال عليها، حيث كانت تستقبل سنوياً نحو 18 مليون سائح أوروبي، فى ذلك الوقت، إلا أن ساحل أنطاليا، ذو طبيعة صخرية قاسية، ومياهه لا تسمح لمرتاديه بالنزول إليها، لقتامة لونها، عكس الشواطئ المصرية، على ساحلنا الشمالي، المقابل للسواحل التركية، على نفس البحر، حيث تجد أنقى المياه، وأجمل الشواطئ الرملية. ومع ذلك نجحت مدن ذلك الساحل، فى تسجيل اسمائها على خريطة السياحة الأوروبية، مثل مدينة بودروم الساحلية الرائعة الجميلة، التى تراها وأنت سائر على الطريق السريع، فتعرفها من ألوان مبانيها الموحدة، باللون البيج، ونوافذها وأبوابها الموحدة باللون العسلي، وتقف فى خلفيتها الجبال العالية، المكسوة بالأشجار الخضراء، فتشعر وأنك أمام لوحة فنية رائعة، من إبداع الخالق، جلّ وعلا. ولا تقل عنها، فى جمال التخطيط، والتصميم، مدينة مارماريز، أجمل مدن ساحل أنطاليا، المطلية بلون موحد جميل، والمعروفة بأسواقها الممتعة، ومناظرها الطبيعية الخلابة، فتذكرت مدينة سيدى بوسعيد الساحلية الرائعة، فى شرق تونس، الموحد طلاؤها باللونين الأبيض، والأزرق، كصورة فنية رائعة.

غادرت تركيا، بعد إتمام مهمتى بها، ومرت السنوات، وتم اختيارى كأول محافظ، للأقصر... وبعد شهر واحد من تولى مهام منصبي، قررت أن يكون للأقصر لون موحد، يضفى عليها صفة وروح المدينة، التى تحتوى على ثلث آثار العالم، وتعتبر بأكملها متحفا مفتوحا للآثار. وهنا كانت الوقفة ... كيف يتم اختيار لون لهذه المدينة التاريخية العظيمة؟ فاختيار اللون لا يتبع الأهواء الشخصية، خاصة أن المبانى السكنية والإدارية، تقع بين المعابد والمعالم الأثرية الموجودة فى كل مكان من حولك، لذا يجب أن يتناسب اللون مع طبيعة المكان، وعظمته.

فرجعت بالذاكرة للوراء قليلا، أثناء رئاستى لدار الأوبرا المصرية، عندما كلفنى الوزير الفنان فاروق حسني، وزير الثقافة، آنذاك، بتطوير دار أوبرا الإسكندرية، وإعادتها للحياة، بعدما أنهكها الإهمال لسنوات طويلة، رغم تميز موقعها، وروعة تصميمها الإيطالي، فبدأنا عملية تطوير شاملة للمسرح، والمقاعد، وزودناها بأحدث أنظمة الإضاءة، والصوت، والتبريد، وبعد عمل شاق، لمدة عام تقريبا، جاءت لحظة اللمسات الأخيرة، واختيار الألوان، والحقيقة أن من أكثر فنانى مصر تميزا فى اختيار وتنسيق الألوان، هو الفنان فاروق حسني، فطلبت منه الاستفادة من خبرته، فحضر بالفعل، وجلس أمام مجموعة من الألوان، وبدأ، بنفسه، فى المزج بين ألوان متعددة، بنسب مختلفة، حتى خرج بدرجة لون، قائلاً إنها الأنسب لطلاء دار الأوبرا، وهى ما يطلق عليها اسم الجريج، باعتباره مزيجا من اللون الجراي، أى الرمادى بالإنجليزية، واللون البيج. كانت أول مرة أتعرف على ذلك الاسم، وذلك اللون، ولكن الاختيار كان رائعا عند تنفيذه، مع الموتيفات، أو النقوش والتصميمات، الذهبية، والمقاعد المكسوة بالقطيفة الحمراء، فخرجت بشكل يناسب عراقة دار الأوبرا.

تذكرت كل هذا وأنا أفكر، وأبحث عن اللون الجديد، الذى سيكسو أجمل وأقدم مدن مصر، والعالم، الحاضنة لثلث آثار العالم، فقررت إجراء تجربة حية على أحد مبانى المدينة، باستخدام ذلك اللون الجريج، مع طلاء النوافذ والأبواب، باللون البنى الممزوج باللون العسلى الغامق، فكانت النتيجة النهائية مذهلة، لأنه تناسب مع ألوان معبدى الكرنك والأقصر فى الخلفية من ناحية، ومع الطبيعة الصحراوية لبلدنا، من ناحية أخري. وطلبت عقد اجتماع مع اللجنة المكلفة بتطوير الأقصر، والمشكلة، حينها، من كل من رئيس مجلس الوزراء الأسبق أحمد نظيف، ووزير الثقافة فاروق حسني، ووزيرة التعاون الدولى فايزة أبو النجا، ووزير الإسكان والمرافق والتنمية العمرانية أحمد المغربي، ورئيس الوزراء الحالي، المهندس مصطفى مدبولي، الذى كان يرأس هيئة التخطيط العمراني، فى هذا التوقيت، وبعضويتي، بصفتى المحافظ المسئول، وفى الاجتماع تمت الموافقة على أن يكون اللون الجريج، هو اللون الموحد لكل المبانى والمساكن فى المدينة، فتم التنفيذ على الفور، بدءا بشارع المحطة، وشارع التليفزيون، وميدان أبو الحجاج، وكل المناطق المحيطة بالمناطق الأثرية، وأصدرت قرارا بعدم توصيل المرافق العامة للمبانى السكنية الجديدة، إلا بعد التأكد من اعتمادها للون الجريج.

والآن عزيزى القارئ، وأنت فى القطار، مشرف على دخول مدينة الأقصر، تستقبلك بمنظرها البهي، بعدما اكتست بلون موحد متسق، ومتناسق مع طبيعتها التاريخية، فتفردت به، ونالت ما تستحقه من تميز.

استدعيت تلك الذكريات، أثناء مروري، هذا الأسبوع، على الطريق الدائري، فرأيت منظرا غاية فى القبح.. إذ رأيت أحد المبانى السكنية وقد تم طلاء واجهته باللون الأصفر الغامق، وطليت أجنابه باللون الأحمر الطرابيشي.. ورأيت مبانى أخرى وقد طليت واجهة كل شقة فيها بلون مختلف عن باقى الشقق، وفقا لاختيار أصحابها، وبما يتعارض مع القانون، فى منظر صادم، ومؤسف، ومؤذ للعين، وينم عن انعدام الذوق العام.

ثم حمدت الله على قرار السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، بضرورة توحيد طلاء واجهات العمارات والأبنية، ضمن استعدادات مصر لاستضافة بطولة كأس إفريقيا لكرة القدم، واستقبال ضيوف هذا الحدث الرياضى الكبير، وهو ما ترجمه رئيس مجلس الوزراء، على الفور، فى اجتماعه الأسبوعي، بصدور قراره بمحاكاة اللون الذى تم تنفيذه من قبل فى مدينة الأقصر، وهو اللون الجريج.



Email: sfarag.media@outlook.com