العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

واليوم، جاءت مهمتهن الثانية، التى تصب فى صميم اختصاصهن، وهى إقناع سيدات قرية المهيدات بضرورة تنظيم النسل.

ـ درس "المهيدات" ـ
 

لواء د. سمير فرج

 27 أكتوبر 2017

لفت انتباهى ما طرحه الرئيس السيسى أخيرا، فى خطاباته فى مناسبات عدة، سواء فى مؤتمر الشباب بالإسكندرية فى أواخر يوليو الماضي، أو فى احتفالية إعلان التعداد السكانى لعام 2017 فى سبتمبر الماضي. فقد تعرض الرئيس لأكبر خطرين يهددان مصر حاليا وهما الإرهاب والزيادة السكانية.

توقفت قليلاً أمام الإرهاب، وبالرغم من خطورته، إلا أنه لم يشغل بالى كثيرا، فأنا على يقين من هزيمته والقضاء عليه تماماً، إن شاء الله، مهما يطل الوقت ... فلم ينتصر الإرهاب على دولة يوما، ولم تُهزم الجيوش النظامية أمام ميليشياته أبدا إلا أن خطر الزيادة السكانية استوقفنى طويلا ... فهو خطر قائم، وسيزداد تهديده، ما لم تتخذ الدولة حزمة من الإجراءات العاجلة لتحجيمه، والسيطرة عليه.

وهنا تذكرت قصة المهيدات... والمهيدات هى قرية صغيرة، من قرى محافظة الأقصر... تتميز ببساطة أهلها، وطيبة ناسها. أذكر أنه فى عام 2005، بعد عام من وصولى إلى الأقصر، محافظا لها، أن سمعت من يحكي، ويتندر بمعدلات المواليد فى هذه القرية، التى يصل متوسط عدد أفراد الأسرة فيها إلى تسعة أفراد. صدمتنى الكلمات ... وتحققت من صحتها! وبالرغم من العادات المصرية المرتبطة بزيادة المواليد، إلا أن هذه الأرقام كانت تفوق ما هو متعارف عليه. وبالسؤال والبحث عن أسباب هذه الظاهرة، فى تلك القرية، تحديداً، لم أصل لإجابة شافية أو سبب واضح... كان الرد الشائع هو ده سلو بلدنا.

بدأت التحرك سريعا، بتكوين فريق عمل من الجهات المعنية، ضم وكلاء وزارات الصحة والأوقاف والتعليم، الموجودين بالمحافظة، وقررت الاعتماد، مرة أخرى، على منظومة الرائدات الريفيات... ولمن لم يسمع، من قبل، عن تلك المنظومة، فهى أحد أنجح مبادرات وزير الصحة الأسبق، الدكتور إسماعيل سلام، التى أسس لها منذ سنوات عديدة، لتكون أداة، رائعة، للتوعية الطبية للنساء والفتيات فى النجوع، والقرى، والمراكز، فى جميع محافظات مصر... تلك المنظومة التى وئدت، للأسف، برحيل الدكتور سلام عن منصبه... كمثيلاتها من المبادرات والأفكار التى يأبى المسئولون الجدد فى الاستفادة منها، أو البناء عليها... فأصبحت الرائدات الريفيات بلا عمل، وبلا أدنى تخطيط للاستفادة من مواهبهن وخبراتهن!

كانت أولى تجاربى فى التعامل مع تلك المنظومة، عندما اعتبرتها ساعدى الأيمن فى الوصول إلى كل منزل فى منطقة القرنة بالبر الغربي، لإقناع السيدات بالتأثير على أزواجهن بقبول الانتقال إلى مدينة القرنة الجديدة... وقد جاءت النتائج مبهرة، بنجاح الرائدات الريفيات فى الوصول إلى كل منزل، خاصة تلك التى كان يتعذر على موظفى المحافظة، من الرجال، الوصول إليها.

واليوم، جاءت مهمتهن الثانية، التى تصب فى صميم اختصاصهن، وهى إقناع سيدات قرية المهيدات بضرورة تنظيم النسل ... وكنت التقيهن أسبوعيا للتعرف على تفاصيل المشكلة، اعتمادا على ما جمعنه من معلومات من داخل الأسر ... وفى الأسبوع الثانى لبداية عملهن، واستجابة لمقترحهن، تم البدء فى تأسيس وحدة صحية نسائية لتنظيم النسل.

لم تكن الوحدة الصحية إجراءا كافيا، لتغيير الوضع، وإنما استلزم الأمر استكماله بمخاطبة الرجال وتوعيتهم بسلبيات زيادة النسل، فوقع اختيارنا على المسجد، كمنبر للتوعية، عن طريق دروس يومية بعد صلاة العشاء، وخطبة صلاة الجمعة من كل أسبوع. وتم اختيار ثلاثة من شباب الأئمة، للقيام بمهمة الوعظ والإرشاد، بأسلوب حديث، متخلين عن الطرق التى عفا عليها الزمان، ومسلحين بالعلم المطلوب للإجابة عن الأسئلة التقليدية.

بقى بُعد آخر للتعامل مع تلك الظاهرة، لضمان ضرورة تغييرها مستقبلاً، فكان لابد من توعية الأطفال، شباب المستقبل، بسلبيات ذلك الإرث الأليم... فجاء دور المدرسة، وتم اختيار مدرسين ومدرسات، ممن لهم القدرة على حسن التواصل الاجتماعى سواء فى المدارس أو مراكز الشباب... وتبنت الإذاعات المدرسية، فى كل مدارس المحافظة، وليس فى قرية المهيدات فحسب، موضوع تنظيم النسل، كمهمة أساسية لها، تعرضه يوميا، فى طابور الصباح، بصورة مبسطة، يستوعبها التلاميذ بسهولة، حتى تترسخ فى أذهانهم.

وبدأت أولى بوادر نجاح الخطة، عندما تم رصد زيادة معدلات استهلاك وسائل منع الحمل الموجودة بالوحدة الصحية، تلا ذلك ارتفاع أعداد الأسر المستخدمة لتلك الوسائل، واستمرت الزيادة من شهر إلى آخر، ومن عام إلى عام آخر... حتى تم، بالفعل، خفض أعداد المواليد فى قرية المهيدات بعد عدة سنوات. وعندما أسترجع ذكريات سبع سنوات قضيتها فى الأقصر، وذكريات 84 مشروعاً نفذتها بنجاح، يبقى خفض متوسط أعداد المواليد فى كل أسرة من ثمانية إلى أربعة أطفال، هو الأقرب إلى قلبي.

واليوم ... وبعد إعلان التعداد السكانى لعام 2017، الذى قاده باقتدار، وبأحدث تكنولوجيا العصر، اللواء أبو بكر الجندي، والعاملون بالجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أصبح لدينا بنك هائل من البيانات والمعلومات، التى نستخلص منها ملايين التصنيفات والتحليلات الضرورية لتغيير الكثير من الظواهر السلبية فى مجتمعنا. وأنا على يقين من أن إطلاع السيد الدكتور وزير الصحة على معدلات المواليد فى مصر، سواء فى الريف، أو حتى فى الحضر، سيدفعه إلى اتخاذ إجراءات سريعة للحد من تلك المعدلات، إضافة إلى وضع استراتيجية طويلة المدى للسيطرة على الزيادة السكانية، اعتماداً على بيانات التعداد، وبما يتوافق مع طبيعة كل منطقة وعاداتها ... وهو جهد لا يقع على عاتق وزارة الصحة والسكان وحدها، وإنما يستلزم تضافر جميع جهود الدولة، وتوجيهها نحو تلك الأولوية، باعتبارها خطرا قائما، وذلك حتى لا تأكل الزيادة السكانية جميع نتائج النمو المنتظر فى مصر.



Email: sfarag.media@outlook.com