العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

أتذكر معكم زيارة ملكة النرويج إلى القاهرة، لحضور احتفال مصر بأعظم كتاب العصر الحديث على مستوى العالم، الكاتب النرويجيHenrik Ibsen، الذي أذهل العالم بكتاباته المسرحية مثل 'البطة البرية'، و'بيت الدمية'، التي تم تعريبها، وقام ببطولتها الراحل نور الشريف، على خشبة المسرح القومي.

ملكة النرويج ... والأقصر

لواء أ.ح. دكتور/ سمير فرج

 

سبع سنوات قضيتها في الأقصر ... محافظاً لأجمل بقاع الدنيا ... بشهادة كل من زارها ... من كل الأطياف ... ملوكاً كانوا ... أو رؤساء ... أو أشخاص عاديين. وعندما أشارككم ذكرياتي، عنها، فإن هدفي هو إطلاعكم على صورة مصر، وأقصرنا العريقة، في عيون زائريها.

واليوم، أتذكر معكم زيارة ملكة النرويج إلى القاهرة، لحضور احتفال مصر بأعظم كتاب العصر الحديث على مستوى العالم، الكاتب النرويجيHenrik Ibsen، الذي أذهل العالم بكتاباته المسرحية مثل "البطة البرية"، و"بيت الدمية"، التي تم تعريبها، وقام ببطولتها الراحل نور الشريف، على خشبة المسرح القومي.

وللحق أقول،أقامت مصر احتفالية ثقافية، أكثر من رائعة، للاحتفال بالكاتب العالمي، عند سفح الأهرامات، كانت عنواناً كبيراً، لمكانة مصر الثقافية في العالم، باعتبارها مهد الحضارات الإنسانية. وتمت دعوة الملكة سونيا، ملكة النرويج، للمشاركة في حفل تكريم أعظم كتاب العصر الحديث. ولبت الملكة الدعوة، وطلبت أن تزور الأقصر بعد حضور الحفل الرائع. وفي اليوم التالي، وصلت إلى الأقصر، حاملة أربعة كتب عن المدينة. وهو ما لاحظته، وتابعت تكراره في جميع زيارات كبار الشخصيات إلى الأقصر، فقبل الزيارة يكونوا قد أطلعوا، وقرأوا، وذاكروا التاريخ المصري الفرعوني. وتم ترتيب الزيارة على يومين، إلا أن الملكة مكثت بالأقصر لمدة خمسة أيام، وسأعفيكم من تفاصيل المشكلة الناجمة عن مد الزيارة لثلاثة أيام إضافية، وما أحدثه ذلك من ارتباك، نتيجة لانشغال الفنادق في كامل المدينة بنسبة 100%، وما تطلبه ذلك المد من تعديلات في مواعيد ضيوف آخرين قادمين إلى الأقصر.

على أية حال، وصلت الملكة إلى الأقصر، في قمة ذهولها من أنها مرتدية ملابس صيفية، في حين يغطي الثلج الطرق والمنازل في النرويج، وكاسحات الثلوج تعمل على مدار اليوم هناك. وما أن ركبنا السيارة، إلا وطلبت فتح نوافذها "لاستنشاق الهواء الجميل ... الدافئ". وتوجهنا إلى فندق ونتر بالاس، وصعدنا إلى شرفة الجناح الملكي به، وكان وقت الغروب قد حل على المدينة، ليضفي إلى جمالها، جمالاً خلاباً، لا تراه في أي مكان آخر في العالم، حيث يبرق النيل العظيم، تحت بقايا أشعة الشمس، التي بدأت تتوارى فيه، خلف الأشرعة البيضاء الرابضة على شطه، كأنها حراسه. وحبست الملكة أنفاسها من روعة المنظر، فدعوتها إلى الاستمتاع به في شرفة الفندق، مع فنجان من الشاي. فزادها أهل الأقصر إبهاراً، بقطعة من حلوى البلح، لا تجد لها مثلاً في أي مكان آخر، وهو ما يأكد كلام أهل الأقصر، عندما يصفوا أنفسهم بالتميز، فهم، حقاً، متميزون! وهو ما استدعى لذاكرتي حلواني جيانولا، الذي كان يقدم أحلى "ميل فاي" في العالم، أيام زمان، بالطبع.

ثم جاء وقت العشاء، فأردت أن أفسح للملكة الفرصة، لفض حقائبها، وتغيير ملابسها، لكنها فضلت ألا تضيع أي دقيقة، إلا إذا كان هناك بروتوكولاً رسمياً لذلك، فأكدت لها أنها في أجازة شخصية، ولها أن تتحرر من القيود الرسمية، وتفعل ما يحلو لها. واصطحبتها إلى العشاء، في أحد مطاعم الأقصر، على ضفاف النيل، مبتعداً عن الفنادق والمطاعم الرخامية ذات الخمس نجوم، لأتيح لها تجربة مصرية كاملها، بما فيها أكل الحمام المحشي بدون شوكة وسكين. وأمضينا نحو ساعة كاملة على العشاء، تخللها عدد من المكالمات الهاتفية التي أجرتها الملكة مع أفراد عائلتها، تخبرهم فيها بأنها تجلس على ضفاف النيل، مرتدية الملابس الصيفية، في هذا الشهر من العام، بينما تستمع إلى وصفهم للثلوج التي تغطي النرويج في ذات اللحظة، والقرى المهاجرة بسبب ذلك. وأعقب ذلك مكالمة بينها وبين رئيس وزراء النرويج، أخبرها فيها بانقطاع الكهرباء، في أماكن متعددة بالنرويج، نتيجة لتساقط الثلوج بغزارة، فردت عليه، مداعبة، بأنه يجب على الحكومة النرويجية العمل على نقل أهل النرويج إلى الأقصر، لتفادي الثلوج، والاستمتاع بجو رائع، لا مثيل له بالعالم. وأنا استمع إلى حديثها، وأتحسر على بلادي التي نبخسها حقها، ولا نقدرها حق قدرها.

وأنهينا العشاء، وظننت أنها ستتوجه فوراً إلى حجرتها بالفندق، بعد أن بدأت يومها في القاهرة بزيارة قلعة صلاح الدين الأيوبي، ثم المتحف المصري في وسط العاصمة، وتوجهت بعدهما إلى الأقصر لتستأنف يومها، بحيوية ونشاط، إلا أنها طلبت أن تتوجه إلى أسواق المدينة، لتستكمل استمتاعها ببلدنا، حسب تعليقها. وحيث أن الساعة كانت تشير إلى التاسعة مساءاً، وبما أننا في فصل الشتاء، فإن المحال تظل مفتوحة حتى منتصف الليل، توجهنا، بالفعل إلى السوق، لتشتري الهدايا التذكارية. ومع دخولنا السوق، كان الترحيب بي، من أصحاب المتاجر، غاية في الحفاوة، بصفتي المحافظ الذي طور السوق، ليصبح من أروع أسواق مصر، وليس الأقصر فحسب. وبعد تكرار مواقف الترحيب بي من أهل الأقصر، طلبت مني الملكة أن أعود إلى مكتبي، وأتركها بمفردها، كإنسانة عادية لا يعرفها أحد، مؤكدة أن هذالن يحدث، لو أنني أكملت الزيارة معها. فاستجبت لرغبتها، وتركتها مع إحدى موظفات العلاقات العامة بالمحافظة، وفردي أمن يسيرون على مسافة، ليست قريبة، منها. وللحق أقول، لم أنزعج يوماً، طيل فترة تواجدي في الأقصر، من تأمين السياح بها، فأهلها يعرفون، تماماً، كيف يحافظون على ضيوفهم، فلم يحدث خلال سبع سنوات، أن سمعت عن حالة تحرش بالسياح، فأهل الأقصر صعايدة، عيب أن يسمحوا بأي مضايقات لضيوفهم.

أمضت الملكة ثلاثة ساعات في السوق، اشترت خلالهم العديد من الهدايا، استدعى حجمها إرسال فردين من المحافظة، للمساعدة في حملها، أما السجاجيد، فقام أصحاب المتاجر بإرسالها مباشرة إلى الفندق. إن تلك التفاصيل التي أشارككم إياها، ليست من باب السرد، وإنما للتدليل على رواج حركة السياحة في الأقصر، وما يعنيه ذلك من توفير فرص العمل لأبناءها، في مختلف المجالات، وليس في المزارات السياحية فقط.

وفي صباح اليوم التالي، وبعد أن ركبت الملكة المنطاد في الفجر، واستمتعت بمنظر أفقي للمدينة مع شروق شمسها، طلبت أن يكون إفطارها على فلوكة في النيل، وهي خدمة تقدمها معظم الفنادق في الأقصر، ومن فرط استمتاعها، طلبت أن يكون الغذاء، أيضاً، على فلوكة في النيل، ثم أن تحتسي الشاي على الفلوكة مع الغروب، وقبل أن تطلب الترتيب للعشاء على الفلوكة، أبلغت سكرتيرها، بأن لنشات المسطحات المائية كانت تؤمنها طوال اليوم، وهو ما سيتعذر استمراره مع حلول الليل. فعادت الملكة إلى الفندق، بعد الغروب، وطلبت، ساعتها، أن تمتد الزيارة لثلاثة أيام إضافية. ولا أنسى لفتتها الرقيقة، في نهاية زيارتها، بأن طلبت أن تقدم هدية رمزية للحلواني بالفندق، الذي كان يعد لها حلوى البلح يومياً.

عزيزي القارئ، ليست هذه قصة أحكيها لك بلا هدف، وإنما السبب في مشاركتك إياها، هو أن أقول لكم جميعاً أن بلدنا عظيمة ... ورائعة ... وبها مقومات لم تؤت لأي مكان آخر في العالم، بما يتيح لنا أن نقدم لزوارنا شيئاً مختلفاً. يا أهل المحروسة ... تذكروا ما لدينا من مميزات ... وتذكروا بأن لدينا أجمل مدن في العالم ... وابتعدوا، ولو قليلاً، عن حرب الفضائيات اليومية ... وركزوا جهودكم في العمل لصالح هذا البلد. لك الله يا مصر!

Email: sfarag.media@outlook.com