العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

يبدو أن الشتاء لم يسمح للعاصمة الأمريكية واشنطن باستقبال فصل الربيع بعد، وأبى ألا يغادر قبل أن يغمرها بعاصفة

صباح الخير.. من واشنطن
 

لواء د. سمير فرج

 16 مارس 2017


يبدو أن الشتاء لم يسمح للعاصمة الأمريكية واشنطن باستقبال فصل الربيع بعد، وأبى ألا يغادر قبل أن يغمرها بعاصفة ثلجية جديدة، تمتد لنحو ثلاثة أيام متواصلة. حمدت الله أن طائرتى قد هبطت قبل بدئها بساعات قليلة، إذ أدت، فى مدة قصيرة، إلى ارتفاع الجليد لعدة سنتيمترات فوق الأرض. فوجدتنى أتمتم لنفسي، «يجعلك دايماً عمار يامصر». لقد توقفت المدينة عن الحركة تقريباً، حتى أن المستشارة الألمانية ميركل أجلت زيارتها إلى البيت الأبيض ليوم باكر، حتى انتهاء تلك العاصفة. فى حين تعالت التحذيرات بتوخى الحذر، خاصة فى القيادة، مما أثر على بعض الأنشطة السياسية، فى ظل انشغال الإدارة الأمريكية الجديدة، حالياً، ببدء تطبيق مشروع القانون الصحى الجديد، الذى تقدم به الرئيس ترامب، بعدما ألغى نظام »أوباما كير«، لما وجد فيه من محاباه لشركات التأمين والمؤسسات الطبية، على حساب المواطن الأمريكي. لقد تعودت، منذ زمن بعيد، أن تكون زيارتى السنوية إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال شهرى أكتوبر أو نوفمبر من كل عام. ولكنى آثرت تأجيلها فى العام الماضي، حتى تكون الأوضاع قد استقرت فى البيت الأبيض، بعد تسلم الرئيس الجديد لمهام منصبه فى مطلع العام الجاري، واختيار أعضاء الإدارة الجديدة وطاقم المساعدين.

واخترت منتصف مارس موعداً لبدء زيارتي. فقد أوشك الرئيس ترامب، بالفعل، على تسكين جميع أفراد إدارته. كما يأتى التوقيت الحالى متزامناً مع الاستعدادات والتحضيرات لزيارة الرئيس السيسى إلى واشنطن، فى أول عودة للرئيس المصرى إلى البيت الأبيض بعد نحو سبع سنوات من الفتور فى العلاقات المصرية-الأمريكية. التى مرت بأسوأ عهودها خلال فترتى حكم الرئيس السابق باراك أوباما، بالرغم من محاولات إظهار العلاقات فى شكلها الطبيعى والتى قابلها الرئيس عبد الفتاح السيسى بحكمة وذكاء، متفادياً الوصول إلى نقطة اللاعودة.

بدأت برنامج يومى الأول باجتماع مع السيد ريتشارد أرميتاج والذى شغل منصب نائب وزير الخارجية فى إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش (الابن)، كما شغل منصب مساعد وزير الدفاع فى عهد الرئيس رونالد ريجان. إنه رجل ذو طبيعة خاصة، قلما تقابل مثله فى الحياة. وإن التقيته يوماً، تظل تفاصيل اللقاء محفورة فى الذاكرة مهما مرت السنوات. دخلت إلى مكتبه، فرأيت ذات الرجل ذا البنيان الضخم، والصوت الأجش، وبالرغم من اعتلاء وجهه بعض علامات تقدم السن،إلا أن عينيه لا زالتا تحملان نفس النظرة الحادة، المشتعلة الذكاء. استقبلنى الرجل بترحاب شديد، رغم أن علاقة العمل التى جمعتنا يوماً، لم تزد عن خمسة أيام، إلا أننى مازلت أذكر تفاصيلها جيداً. كان ذلك فى الثمانينيات، بعد سنوات من الانتصار فى حرب أكتوبر 1973، إذ كنت عضو الوفد العسكرى المصري، برئاسة الفريق صفى الدين أبو شناف، وكنا نلتقى مع وفد البنتاجون كل عام، لمدة خمسة أيام، لبحث بنود وأوجه التعاون العسكرى مع الولايات المتحدة الأمريكية. وكان ممثل الجانب الأمريكي، طوال تلك الأيام الخمسة، هو السيد ريتشارد أرميتاج، مساعد رئيس الأركان الأمريكي، حينئذ. أذكر أن الرجل بهرني، لإلمامه بجميع تفاصيل المباحثات، الصغيرة منها قبل الكبيرة. وهو ما أهله لاتخاذ القرارات، متيقناً من تصديق قياداته عليها.

واليوم ألتقيه بصفته عضو المجلس الأمريكى الأعلى لسياسات الدفاع. واحداً من أهم المجالس العسكرية فى الولايات المتحدة، المسئول عن وضع تصور لسياسات الولايات المتحدة فى الدفاع عن أراضيها وعن مصالحها الخارجية، وعرض ذلك التصور على البنتاجون لبحثه وتبنيه. والحقيقة أن السيد أرميتاج يستحق تلك العضوية، لما له من خبرة وحكمة وآراء سديدة.

بدأ لقاؤنا باسترجاع ذكريات مباحثات الثمانينات، التى مازال يذكرها جيداً، حيث أشاد بالفريق أبو شناف. وكيف لا؟ وهو من خيرة الرجالات الذين تولوا منصب رئيس أركان القوات المسلحة المصرية، أشاد السيد أرميتاج بثقافة وعلم وخبرة وذكاء الفريق أبو شناف، مؤكداَ أنه مثال مشرف للقوات المسلحة المصرية.

ثم فاجأني، ناطقاً بالعربية «مبروك»، قبل أن يستطرد بلغته قائلاً «لديكم رئيس شجاع. ومصر محظوظة بأن يقودها رجل مثله بعد الربيع العربي». فبعد ما شهدته بعض دول المنطقة من فوضي، خلّفتها ثورات الربيع العربي، يرى أرميتاج أن مصر استطاعت التماسك والحفاظ على وحدتها، فى وسط منطقة ملتهبة بالصراعات. لم أقاطع حديثه، فما يهمنى هو أن أنصت لما يقول، فأضاف أنه قد عاد لتوه من تركيا، وشاركنى بعض التفاصيل عن لقاءاته هناك، ولكننى لست فى حل من أن أسردها، قائلاً «أردوغان يمتلئ كراهية لكم». ولم أتعجب كثيراً من تلك الكلمات، فسياساته خير دليل عليها.وانتقل الحوار إلى محور مهم، فأردف قائلاً إن الولايات المتحدة الأمريكية يعنيها أن تحافظ مصر على قوتها فى المنطقة، مؤكداً أن استقرار الشرق الأوسط بأكملها، يعتمد على استقرار مصر، وقدرات قواتها المسلحة، باعتبارها حجر الزاوية فى المنطقة. وهنا قاطعته قائلاً بأن سياسات الرئيس الأمريكى السابق يبدو أنها لم تكن مؤمنة بذلك، بل وعملت على عكسه تماماً. فاتفق معي، مؤكداً أن أمريكا مرت بوقت عصيب أثناء حكم أوباما، وأن مصر لم تكن الحليف الوحيد الذى تأثر سلباً من سياسات إدارته، آملاً فى تصحيح الإدارة الجديدة لتلك المسارات، ومشيداً بالقوات المسلحة المصرية والرئيس السيسي، اللذين حافظا على وحدة مصر فى تلك الأثناء، ومؤكداً ضرورة تقديم الدعم ويد العون لهما، سواء داخلياً أو خارجياً. وقبل أن ننهى اللقاء الذى امتد لأكثر من ساعة، مرت كأنها دقائق معدودة، سألته عن مدى سعادته، بصفته عضواً بارزاً فى المجلس الأعلى لسياسات الدفاع، بقرار الرئيس ترامب بزيادة ميزانية الجيش الأمريكى ورفع كفاءته، فضحك مؤكداً أنه قرار طال انتظاره. ثم أصطحبنى إلى المصعد وأنا أغادر مكتبه، على وعد بأن يكون لقاؤنا المقبل فى مصر، التى قال إنه لم يزرها منذ زمن طويل، ولكنه يتشوق للعودة إليها، والاستمتاع بجوها، ودفء مشاعر أهلها، وكذلك زيارة الأقصر بعدما علم أننى كنت محافظاً لها لسبع سنوات.

بعد أكثر من عشرين عاماً، قابلت ريتشارد أرميتاج مرة أخري، وبهرني، هذه المرة، بتقديره واحترامه لشعب مصر ولرئيس مصر.



Email: sfarag.media@outlook.com